نحن وتركيا والبدل عن الضائع

نحن وتركيا والبدل عن الضائع

31 مايو 2019
+ الخط -
لطالما قيل، عن حق، إنّ تركيا، منذ ما قبل انتفاضات الربيع في منطقتنا، أمست حاجةً عربية. حاجةً لتأكيد إمكانية إقامة ديمقراطية ليبرالية بمستوى مقبولٍ في بلدٍ الغالبية الساحقة من سكانه مسلمون. كذلك، فإن تركيا هذه ضرورةٌ لدحض رواية استحالة تعايش علمانية الدولة مع الإسلام السياسي. والأهم أن تركيا، منذ 2011، لا بد من بقائها بالنسبة لنا، لأنها صارت ملجأ لمئات الآلاف من العرب المطاردين من حكومات بلدانهم، أكان هؤلاء مواطنين أم سياسيين معارضين، من سوريين بالملايين ظروفهم معقولة مقارنة بالجحيم الذي يعيشون فيه في لبنان مثلاً، ومصريين وعراقيين ويمنيين وليبيين وفلسطينيين. ولطالما أيضاً وقف المراقب العربي الذي يصنّف نفسه ديمقراطياً مؤيداً للثورات العربية، أو منخرطاً فيها، حائراً أمام الحكم على سلوك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الجانح نحو التسلط والشعبوية المجبولة بالشوفينية والخطاب الديني، لعلمه أن الموقف العام من تركيا اليوم يصعب فصله عن الرأي بأردوغان شخصياً، رأس النظام، ومهندس خياراته الداخلية والخارجية مثلما عرفناها منذ أن تولى حزبه السلطة نهاية عام 2002. ولأن السياسة تتعاطى مع ما هو موجود، أملاً بتثبيته أو بتغييره، لا مع مجرّد أفكار وطوباويات، فإنك، إن قلتَ إنك تتمنّى طيّ صفحة حكم أردوغان وحزبه، فسيكون عليك تحمّل المسؤولية الأخلاقية عما قد ينتج من ذلك في حال تحقق، بالنسبة لما يهمّنا، نحن العرب من مؤيدي الثورات العربية في هذه الحالة، مثل مسارعة مَن قد يخلف أردوغان ورفاقه اليوم إلى التصالح مع نظام بشار الأسد، وطرد ملايين السوريين اللاجئين من الأراضي التركية لإعادتهم إلى الموت المحتم على يد سفاحي بلدهم، وهذا ليس تحليلاً أو قراءة في النوايا، بل هو تلخيص لما تعلنه المعارضة التركية بتلويناتها الرئيسية، العلمانية المتموضعة في يسار الوسط (حزب الشعب الجمهوري)، والقومية اليمينية المتطرفة المتمثلة في "الحزب الجيد" المنشق عن الحزب المتطرّف الأم، الحركة القومية، المتحالفة بدورها مع أردوغان، ويدين لها بالفضل في تحقيق انتصارات انتخابية منذ صار النظام التركي رئاسياً. هؤلاء يعلنون، بلا خجل، مشاريعهم حيال الملف السوري لجهة ضرورة الاعتراف بنظام الأسد وكأنه لم يقتل شعباً ولم يدمر بلداً، وإزاء ضرورة عدم مواجهة عواصم المحور السعودي. بالتالي، فإنّ تمني إطاحة أردوغان يترافق بشكل إلزامي مع توقع تحلل أنقرة المستقبلية، في حال تولي معارضي اليوم الحكم غداً، من أي موقفٍ يواجه عواصم الثورات المضادة، الممتدة من الرياض إلى أبو ظبي فالقاهرة. وسيكون علينا أيضاً تصوّر اختفاء أي انتقاد تركي لإسرائيل، من دون المبالغة طبعاً بالدور الفلسطيني الرمزي الذي تؤديه تركيا ــ أردوغان، وهذه أيضاً ليست تخمينات، بل مواقف سياسية تتبنّاها المعارضة التركية الرئيسية. هذه الحيرة بين الضرورة التي تمثلها هذه الـ تركيا كما نعرفها اليوم بالنسبة لنا، نحن العرب من جيل الثورات العربية على الأقل، والقلق المتنامي إزاء النزعات التسلطية التي لا يتردّد أردوغان بإظهارها في سلوكه ومواقفه، تكبر عندما تتذكّر من هم الحلفاء الخارجيون الرئيسيون لتركيا ــ أردوغان، من أسوأ رموز الشعبويات في العالم، يقودهم فلاديمير بوتين، راعي حركات الفاشية الغربية في العالم.
نكاد، نحن العرب، نظراً لحجم الخراب الذي نعيشه في أوطاننا، ننسى أن تركيا كدولة، لا هي ثورية ولا تدّعي الرغبة بتغيير العالم، بل إن قيادتها محافِظةٌ، وسياساتها محكومة بمصالح وبحسابات معقدة تتغير في سلم الأولويات، بحسب ما تحمله القوى التي تحكمها من أيديولوجيا ونظرة إلى نفسها وإلى العالم. نطلب الكثير من تركيا، ثم نُصدم من خياراتٍ عديدةٍ لحكامها في الداخل وتجاه الخارج، لأننا نتعاطى مع هذا البلد وكأنه بدل عن ضائع بالنسبة لنا، لنتذكّر لاحقاً، عند كل محطة، أنه لا وجود لبدل عن ضائع في قضايا الديمقراطية والتحرر والمواطنة.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري