بين الشَّخص والشَّخصيَّة

بين الشَّخص والشَّخصيَّة

28 مايو 2019

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
بين مفردتي الشَّخص والشًّخصيّة جذرٌ مشترك، فالأولى تشير إلى إنسان حقيقيّ، ملموس، موجود في الواقع، فيما تدلّ الثانية على من يحيا في كويكب أدبيّ مختلق، ابتكرته مخيّلة كاتب (ة). والحال أننا نفهم الأشخاص في تركيباتهم المعقّدة، ونفسياتهم المركّبة، ومناطق الظلّ والنور فيها، بشكلٍ أدقّ وأعمق، بفضل الشخصيّات التي تكشف لنا الأسرار والمكامن، وتفتح الدهاليز والأقبية السفلية، تشرّع الأبواب وتكسر الأقفال التي يُبقيها الواقعُ موصدةً، ممتنعة، خفيّة. هذا وقد يحدث، في أحيان كثيرة، أن تصبح الشخصيةُ بالنسبة إلى القارئ، شخصًا واقعيًا، فنراه يتماهى معها بشكل كلّي، "مصدّقا" وجودها، متابعا كامل تفاصيل معيشها، مقتديا بها أو منتحبا لقدرها، ما يؤدّي إلى إخراج بعضها من عالم الرواية والتأليف والخيال إلى غير رجعةٍ، واستقراره في الواقع، جنبا إلى جنب مع شخصياتٍ تاريخيةٍ حقيقيةٍ موثَّقة الحياة والوجود. من بين تلك الشخصيات التي تحوّلت إلى "أشخاص"، يمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: أوديب، أنتيغون، شهرزاد، جحا، دونكيشوت، عوليس، هاملت، آنا كارينين، مدام بوفاري، غودو، أوبو الملك، إلخ. فقد بات هؤلاء أناسًا واقعيين في أذهان القرّاء، تُنسب إليهم أفعالٌ وأطباعُ وحيواتٌ فعليّة، تجعل منهم مراجع يعود إليها بشرٌ يعايشون الواقع نفسه، أو يعرفون المصير ذاته. بل حتى أنّ هناك قرّاءً عاديين كثرا لا يشكّكون البتة بعدم كونها من صنع الخيال، كائنات مختلقة أو وهمية، مع ثقةٍ شبه عمياء بأنها داست أرضَ الواقع، وكانت من لحم ودم.
بهذا الصدد، يروي الكاتب الإيطالي الشهير أمبرتو إيكّو، كيف أن قرّاءً كانوا يراسلونه كي يخبروه بأنهم زاروا الديرَ الذي أحلّ فيه أحداثَ روايته "اسم الوردة"، أو لكي يستفسروا منه عن المخطوطة التي يأتي على ذكرها في مقدمة الرواية، ويقول أيضا إنه عثر على كتابٍ مجهولٍ للمؤلّف أتاناسيوس كيرشر في مكتبةٍ قديمة في بوينس آيرس، وهذي كلّها تفاصيل أدبيةٌ محضةٌ من نتاج خياله. ويضيف إيكّو إنه لم يكن ليُفاجأ من رسائل أولئك القرّاء العاديين الذين كانوا يجهلون أنه اخترع هندسة الدير وموقعه، وإن كان قد استوحى تفاصيل بعض الأمكنة الواقعية، وأن المخطوطة أيضا هي بدعةٌ متّبعة في عديد من الروايات. إلا أن زميلا ألمانيا، مثقّفا وعالما، راسله بعد ثلاثين عاما على نشر روايته تلك، لكي يخبره بأنه وجد كتابا قديما من تأليف كيرشر في إحدى مكتبات بوينس آيرس القديمة، متسائلا إن كانت هذي الأخيرة، كما الكتاب، هما نفساهما المذكوران في "اسم الوردة"!
وفي كتابه "مذكّراتي"، يخبر الكاتب الفرنسيّ المعروف، ألكسندر دوما، كيف اكتشف أن ثمّة من كان ينظّم جولاتٍ لزيارة الزنزانة "الحقيقية" حيث كان الكونت دي مونتي كريستو مسجونا، وأن الزيارة كانت تتحدّث عن حياة البطل وبعض الشخصيات الأخرى، كما لو أنها وُجدت فعلا، في حين كانت تُغفل ذكر شخصياتٍ تاريخيةٍ أُسِرت فعلا في قصر "إيف"، من أمثال الكاتب والسياسيّ الفرنسي الكونت دي ميرابو. ويعلّق ألكسندر دوما على الأمر في مذكّراته قائلا: "من امتياز الروائيين ابتكارُ شخصياتٍ تقتل الشخصيات التاريخية. والسبب أن المؤرّخين يستدعون فقط أشباحا هزيلة، في حين يبتدع الروائيون أشخاصا من لحم ودم".
والحال أن الروائيّ الأصيل والمبدع هو من يستطيع ابتكار شخصيات ذات حيواتٍ متعدّدة الإمكانات، مفتوحة الاحتمالات، بحيث يجعل من الرواية "فنّ كتابة سيرة الممكن"، وكما كتب ألبير تيبوديه في عمله "أفكار حول الرواية"، مردفاً: "إن عبقرة الرواية هي في جعلنا نحيا الممكن، وليس في إعادة إحياء الواقع".
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"