لنتعلم من إيران

لنتعلم من إيران

22 مايو 2019
+ الخط -
تُعلمنا التجربة الإيرانية في مواجهة الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وغطرستها، دروساً كثيرة في المقاومة والصمود، على الرغم من كل الضغوط والعقوبات والتهديدات. كما تعلمنا فن الدبلوماسية التي تفاوض بلا تنازل، وبدون مغامرات غير محسوبة العواقب، فكلما بلغ التصعيد أوجه يعود منطق المصالح الاستراتيجية المشتركة، ليهيمن من جديد. وطوال الأربعين سنة الماضية، عرف الإيرانيون كيف يديرون الحرب النفسية التي تمارسها عليهم واشنطن، بحنكة ومهارة كبيرتين، من دون أن يؤدي ذلك إلى انزلاقٍ إلى الحرب التي ما فتئت طبولها تدقّ منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، فتاريخ العلاقات الإيرانية مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، خلال العقود الأربعة الماضية، هو تاريخ من الصدام والتوتر الذي لا يفضي إلى المواجهة، باستثناء التي تتم بالوكالة، فإيران تعلمت من الغرب نفسه كيف تخوض حربها ضده بالوكالة، وعلى أراضٍ غير أرضها منذ الحرب الإيرانية العراقية التي كانت أكبر حرب بالوكالة، قادتها أميركا ضد إيران. وعلى الرغم من تكلفتها الكبيرة، خرجت إيران منتصرة منها، لأن النفوذ الإيراني اليوم تعدّى العراق ليصل إلى سورية ولبنان، مستفيداً من الأخطاء الأميركية في المنطقة التي تنتهي لتصب في مصلحة طهران.
من يتابع بدقة تاريخ التوتر بين إيران وأميركا، منذ أزمة الرهائن في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، سيخرج بخلاصةٍ مفادها بأن إيران هي التي تخرج، في نهاية المطاف، منتصرةً أو على الأقل رابحة من صراعها مع أميركا. حدث ذلك إبّان أزمة الرهائن التي كانت أول اختبار لصراع القوة بين طهران الثورية وواشنطن، واضطرّت أميركا، في النهاية، إلى القبول 
بالشروط الإيرانية، وعادت إلى التطبيع مع إيران، من خلف الستار، قبل أن تنكشف فضيحة بيع الأسلحة الأميركية إلى إيران في عهد الرئيس رونالد ريغان، وذلك في عز الحرب العراقية الإيرانية التي لم تكن، في نهاية المطاف، سوى حرب بالوكالة بين طهران وواشنطن. وجاءت حروب أميركا في الشرق الأوسط، خصوصاً غزوها العراق واحتلاله، ليقوى النفوذ الإيراني في المنطقة التي سلمتها واشنطن على طبقٍ من ذهب لإيران، عدوتها الاستراتيجية الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط!
منذ أربعين سنة ونيف، تخوض أميركا حرباً نفسية ضد إيران، تضعها تحت ضغط العقوبات الاقتصادية الصارمة، والمراقبة اللصيقة، والمساومة والابتزاز. وفي كل لحظة، ينتظر أن تفقد إيران أعصابها وتنفجر، أو أن تنهار الدولة من الداخل فتستسلم. ولكن لا شيء من هذا يحدث، بل عكس ذلك، تواجه طهران العقوبات بالصمود، والضغوط بالمناورة، والتهديد بالتهديد، لا تتنازل ولا تخاف ولا تتراجع.. وتنتظر أن يعود خصومها، ولو من خلف الكواليس، إلى طاولة المفاوضات نفسها التي هجروها.
قوة إيران تكمن في دبلوماسيتها التي تعرف كيف تساوم، مثل تاجر شاطر في "البازار الإيراني". وبفضل هذه الدبلوماسية، نجحت طهران في أن تفرض نفسها رقماً صعباً في كل معادلةٍ تخصّ حاضر منطقة الشرق الأوسط ومستقبلها. وقد تابعنا كيف استطاعت إيران أن تفرض نفسها قوة إقليمية كبيرة أمام أميركا والقوى الغربية وروسيا في أثناء مفاوضات البرنامج النووي الإيراني. وتكرر السيناريو نفسه، في أثناء الحرب السورية التي يوجد اليوم في طهران أحد أهم مفاتيح إنهائها.
لقد حوّلت الدبلوماسية الإيرانية بلدها من دولةٍ متوسطة وعادية، إلى "قوة إقليمية" كبرى، تُجبر القوى الدولية العظمى على التفاوض معها، والبحث عن حلول توافقية تراعي مصالحها في المنطقة، وهذا في حد ذاته درسٌ في كيفية إدارة العلاقات الدولية بمهارة، بغضّ النظر عن 
الاختلال الموجود في موازين القوى، وهو كيف تستطيع أن تحوّل كل نقطة ضعف عند خصمك إلى نقطة قوة تستعملها ضده، وكيف تنجح، كل مرة، في أن تجرب الوصفة نفسها وتنجح في كسب رهانها.
التجربة الإيرانية في مواجهة الغرب ومفاوضته وتحدّيه، والرد على تهديداته بتهديدات مضادّة، وخوض حروب بالوكالة ضده، وبعد ذلك العودة إلى مساومته وابتزازه، والتفاوض معه قبل التوافق والتوقيع على اتفاقات معه.. كلها دروسٌ مثيرةٌ في فن إدارة الصراعات الدولية، مع الأسف لم يتعلم منها العرب أي شيء.
وما يحدث اليوم من توتر في العلاقات بين طهران وواشنطن، ومن تصعيدٍ في نبرة التهديدات، لن يؤدي إلى حرب بين البلدين، كما تتمنّى بعض دول المنطقة، ففي النهاية ستهدأ العاصفة، وستعود القوتان، الأميركية والإيرانية، إلى لغة التفاهم الموضوعي بينهما، لأنهما تعرفان أن مصالحهما متداخلة، تلتقي عند نقطة واحدة رئيسية، هي ضبط المنطقة، والتحكّم بمصيرها بما يضمن لكل منهما مصالحه الخاصة فيها.
استوعبت إيران الدرس منذ أربعين سنة خلت، ويكفي أن التهديدات والعقوبات الأميركية ضدها منذ 1979 لم تمنعها من أن تستمر في النمو والتطور، ويستمر نفوذها في المنطقة يتمدّد ويقوى، وينجح حضورها الدولي في فرض نفسه لاعباً أساسياً على أرض رقعة لعبة الأمم الكبرى. إنه إرث حضارةٍ تاريخيةٍ عريقةٍ ضاربةٍ أطنابها في التاريخ، وهو ما يجعل من إيران اليوم القوة التي يتوجّس منها الجميع. وفي نهاية المطاف، يعودون إلى التفاوض معها، لأن وجودها ضرورة، وتدميرها سيكون كارثة على أعدائها قبل أصدقائها.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).