طريق الحرير الجديد

طريق الحرير الجديد

19 مايو 2019
+ الخط -
تطغى اليوم مظاهر عولمة جديدة على الطريقة الصينية، فبعد تحرّكات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، التي تسعى إلى فصل بلاده عن العالم، بخروجها عن اتفاقياتها مع دوله، ومحاولات النأي عن العمل المشترك مع أحلافها في الأطلسي والاتحاد الأوروبي وتجمعات أميركا الجنوبية والكاريبي، وقضية الجدار الحدودي العازل مع المكسيك، تأخذ برلمانات حوالي عشر دول أوروبية منحىً مشابهاً، يتمثل واضحاً في نزعة البريكست البريطانية التي ذهبت شوطاً بعيداً في مرحلة الانفصال التام عن الاتحاد. هذا المناخ الذي تسعى فيه الدول إلى الانكماش داخل حدودها القومية، والعودة إلى أفكار ما بعد الحرب العالمية الأولى، يُحدِث استغراباً كبيراً، بينما تنقل خطوط شبكة الإنترنت وصور الأقمار الصناعية مقداراً هائلاً من المعلومات، من دون الاعتراف بالحدود السياسية بين الأقاليم، وهذا يتعارض مع الرغبة المتعاظمة لبعض الأوروبيين مع أميركا في وضع حد لمزيد من الاختلاط.
في مقابل نزعة التفرد تلك، تطرح الصين، منذ أكثر من خمس سنوات، مشروعاً أطلقت عليه اسماً رسمياً، وهو مشروع الطوق والطريق، واسماً شعبياً يحمل نوستالجيا تاريخية، تدفع إلى التعاطف معه، وهو طريق الحرير الجديد. ترغب الصين في تقديم مساعداتٍ بلا حدود لدولٍ كثيرة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وكذلك أميركا، لبناء شبكة ضخمة من طرق الإسفلت ومحطات السكك الحديدية، وهو ما تدعوه "الحزام"، وكذلك لبناء موانئ عملاقة تستقبل أكبر عدد ممكن من الحاويات البحرية. تشكل هذه الموانئ محطاتٍ على الطرق البحرية المقترحة بين مجموعة هذه الدول، بالإضافة إلى شبكة أخرى من خطوط نقل الطاقة على أنواعها. تُظهر
الصين استعداداً لتمويل كل شيء، على شكل قروض ومساهمة مباشرة في عمليات الإنشاء. لم تلتفت الدول النامية أو الفقيرة فقط لهذا المشروع، فقد أبدت إيطاليا اهتماماً كبيراً به، وبدأ تنفيذ بعض خطواته في الهند وباكستان مثلاً.
توفر تلك الشبكة من المواصلات منصّة عمل سياسي واقتصادي شامل. ويمكن أن تكون الصين في بؤرة هذه المنصة، ما يمنحها دوراً كبيراً في السياسة والاقتصاد، وهو ما يجب أن يوضع داخل السياق الاقتصادي الحاد بين الصين وأميركا التي تضع عينها على هذا المشروع العملاق، وهي تنأى بنفسها عن المؤتمرات والتجمعات التي تعقد تحت عناوينه، وقد اتهم مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، هذا المشروع بعدم الشفافية، وبأنه يهدّد الوطنية الخاصة بكل دولة. وقال أيضاً إن الصين، بوصفها ليست من الدول التي تحترم حقوق الإنسان، فالمشروع يمكن أن يغرق بالفساد، كما أنه يعطي للصين مقدرات إضافية ونقاط قوى، وقد تقع بعض الدول الداخلة في المشروع تحت رحمة الصين بشكل كامل، إذا عجزت عن التسديد، فالمشروع من الضخامة بحيث تفوق متطلباته إمكانات بعض هذه الدول، وستعجز عن السداد في النهاية. تعاطُفُ بعض الدول التي تدور في الفلك الأميركي ودول محسوبة أساساً على الولايات المتحدة مع المشروع يثير حفيظة مسؤول الأمن القومي في أميركا، ومن المتوقع ألا يكتفي بالكلام أو توجيه النقد المباشر.
يكتنف المشروع الغموض، وجزء من هذا الغموض بسبب ضخامته وتمدده الكبير، فالصين هنا ترسي قواعد عولمةٍ تقوم على سياسة الإسفلت الذي تراهن عليه، لتقترب أكثر من دولٍ بعينها. وعينُها مفتوحة تراقب مؤشرات نموها السنوي، ولا ترغب في أي حال أن تشاهد أسهمها حمراء، متجهة إلى الأسفل، وعين أخرى على قضيتها السياسية الأهم، وهي قضية تايوان، فالإحاطة بتايوان بأساطيل ضخمة محملة بالبضائع تعج في بحر الصين يشكل نقطة تحدٍّ لديها، كما ترغب بالبقاء نموذج حكم سياسي ناجح، ما زال يحتفظ بعناوين شيوعية عريضة، قد لا يتعرف ماركس عليها فيما لو بعث مجدّداً، ولكن نظام الحكم الذي أفلح، فيما مضى، بتكديس مئات الترليونات، ما زال، كما يبدو، يفكر بالبقاء على كرسي الحكم عقداً آخر.