المدينة العربية والحداثة

المدينة العربية والحداثة

26 مارس 2019
+ الخط -
"هل ما زالت مدارس علم الاجتماع قادرةً على تفسير المدينة في تحوّلاتها، أم أننا نحتاج إلى إعادة نظر في المفاهيم والمناهج"؟ سؤال ضخم يطرحه الكاتب والمؤرّخ اللبناني، خالد زيادة، في عمله الصادر بداية هذا العام (2019)، عن دار رياض الريّس في بيروت، "المدينة العربية والحداثة"، وذلك بعد أن تلاشت المدنُ القديمة وهُجرت، لينشئ التحديثُ مكانها، أو في جوارها، مدنا جديدة مزدحمة، لا تقيم اعتبارا لأيّ تراثٍ عمرانيّ. يتناول الكاتب المدنَ العربية المتوسّطية تحديدا، وأكثرها تأثّرا بالتحديث العمراني وأساليب العيش، وبالتحديد المدن المرافئ، حيث ظهرت التأثيرات الغربية عليها في بداية القرن الثامن عشر، نظرا إلى وجود جاليات أجنبية فيها، وأعمال تجارية مع بلدان القارة الأوروبية، في مقدمة تلك المدن القاهرة التي عرفت حملة نابليون، ومن ثم الإسكندرية خلال عهد محمد علي باشا، وأيضا بيروت خلال حملة إبراهيم باشا على بلاد الشرق، ناهيك بإسطنبول بالطبع.
في تناوله المدن العربية وتحوّلاتها، يستند الكاتب إلى دراساتٍ يعتبرها الأفضل مقدرةً على فهم تلك التطوّرات، وما نتج منها من أزمات النموّ، وإخفاقات في التحديث العمرانيّ، وفشل في استيعاب التبدّلات الاجتماعية والاقتصادية، من أمثال هنري لوفيفر (الحق في المدينة) وديفيد هارفي (مدن متمردة) وآصف بيات (الحياة كسياسة)، مقسّمًا التغييرات التي عرفتها المدن العربية إلى ثلاث مراحل: الأولى وقد أجراها حكّام مصلحون، من أمثال محمد علي باشا وإسماعيل باشا. والثانية تعود إلى فترة الاستعمار، حيث شهدت المدن تخطيطا غربيا لم يراع البيئة والثقافة، ما أدى إلى إظهار تناقضٍ حادّ بين الحديث والقديم في المدينة الواحدة. أما الثالثة فهي مرحلة ما بعد الاستعمار، حين اندفعت الحكومات الوطنية إلى وضع خطط عمرانية وتنموية، أدّت إلى تضخّم عدد سكان العواصم بسبب الهجرة من الأرياف، ونموّ الضواحي والعشوائيات المفتقدة إلى أدنى شروط العيش، مثل الكهرباء وشبكات المياه والصرف الصحّي.
ومما سيكتشفه قارئُ "المدينة العربية والحداثة" أن المدن لم تكن بالزهو الذي تصوّرها عليه الكتبُ والحكايات، إذ كانت تعاني من كوارث عدة، من بينها الأوبئة والزلازل والحرائق. لا بل كانت الأوبئة الأشدّ فتكا في نظر نابوليون الذي أمر أطباء حملته بالحرص على إجراءات النظافة والوقاية في الحارات التي، لضيق دروبها، لا تزورُها الشمس تقريبا. هكذا فُرض على الوافدين إلى المرافئ الحجر الصحّي أربعين يوماً قبل دخول المدينة، واستُخدم الحجر، ثم الباطون، في البناء، وشُقّت شوارع واسعة ومستقيمة، إلى أن تقلّص حيّز القديم، وضاقت رقعته.
بيد أنّ المدينة القديمة بقيت قائمة، على الرغم من كل تلك التغييرات والتحديثات، لكنّها للأسف اندحرت في وجه السلطة الوطنية الاستقلالية، متحوّلةً إلى حاراتٍ هرمة، غير صالحة للسكن، بعد أن ازدهر العمران في أطراف المدن وضواحيها. حدث هذا كله في عقودٍ بسبب التحديث السريع غير المدروس، وبسبب فشل الخطط التنموية، وإهمال الريف، وتشريع العشوائيات، مع تفشّي الفساد والتسويات.
وكما تمّ التخلّي عن المدينة القديمة التاريخية بهجرها، هُجر الوسطُ التجاري الحديث هو الآخر، وصارت المدينة مكاناً معادياً للوافدين إليها، لأنها فقدت اللغة المشتركة والثقافة، ولم تعد ثمّة مدينة، بل لهجات مختلفة وثقافة هجينة.
ويخلص خالد زيادة إلى ما يلي: "ثمّة ما يشبه الثأر والانتقام، فأولئك الذين صاروا أغلبية سكان المدينة، على الرغم من تفرّق أصولهم وتنافرها، يوحّدهم الفقر أو فقر الحال والثقافة، والشعور بأنهم غرباء في مدينةٍ كانت لا تقبلهم، فتمرّدوا عليها، وعلى حداثتها التي جذبتهم وسحرتهم في البداية، فيما هي تعجز عن استيعاب موجات الهجرة المتتالية. هؤلاء السكان، ولكن الغرباء، يعبثون بالمدينة، وينتقمون من حداثتها التي هي عنوان عصريتها وغناها. والسبب في ذلك هشاشة الحداثة، وانعدام التخطيط العمراني، وفقر الوافدين إلى المدينة، وغربتهم عنها. وثمّة استهتار بهذه الحداثة وقوانينها وأنظمتها التي لم يجن منها الفقراء سوى البؤس والقلّة، ويرى آخرون أنها السبب في ضياع التراث والهوية والعقيدة".
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"