أيديولوجيا الكراهية

أيديولوجيا الكراهية

17 مارس 2019
+ الخط -
ليست جريمة الاعتداء على مسجدي مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية حدثاً فردياً، ولا هي وليدة اختلالٍ عقلي للمنفذ. هي مؤشر على مستوى الكراهية التي باتت منتشرةً بين أصناف كثيرة من البشر، بغض النظر عن الانتماء الديني، وإن كان، في بعض الأحيان، محفزاً على ممارساتٍ كهذه، سواء بالنسبة للمسلمين أو المسيحيين، أو غيرهم من الطوائف والمذاهب. الأمر أبعد من مجرّد تعاليم دينية، بل تحوّل إلى أيديولوجيات تغذّي الكره بين البشر، وهو ما تدعمه نظريات ووسائل إعلامية، تدأب على التحريض على هذا الطرف أو ذاك، من منطلقات دينية وعرقية وإثنية.
جريمة المتطرف الأسترالي بحق المصلين في نيوزيلندا هي أحد إسقاطات هذه الأيديولوجيا المتفشية في الشرق والغرب. هي ليست حالة عامة، ومريدوها لم يصلوا إلى الغالبية بعد، لكنها في طور متسعٍ من التمدّد، مدعمين بتصاعد الخطابين، العنصري والتكفيري، واللذين يمكن النظر إليهما على أنهما وجهان لعملةٍ واحدة، فهما يستبيحان سفك الدماء في سبيل تحقيق الغاية الكبرى التي يؤمنان بها.
واضحٌ أن هناك طفرة في أفكار اليمين المتطرّف الغربي، وتحولاً في أيديولوجيته، لتنتقل من الخطاب العنصري إلى تنفيذ أجنداتٍ إجرامية، كان السفاح برينتون هاريسون تارانت أحد تجلياتها، بعدما سبقه إلى ذلك المتطرّف النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك. تحولات تدعمها سياسات عالمية، لعل في مقدمتها وصول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى الرئاسة، وبدء تنفيذه سياسات اضطهاد مباشرة، تجاه كل ما هو مختلف عن "الرجل الأبيض الأميركي"، ليس من مطلق ديني فحسب، إذ إن إجراءاته الأولى جاءت ضد المهاجرين المكسيكيين. وهو إلى اليوم يخوض معركة في الكونغرس الأميركي، لتمويل بناء جدار مع المكسيك. وأفكار ترامب تجد صدىً كبيراً في الداخل الأميركي، فهو في النهاية وصل بأصوات مواطنين أميركيين يتبنون النهج الفكري ذاته الذي يجاهر به ترامب اليوم، ويمكن القول إنه يعبر بالفعل عما يفكر فيه مواطنون أميركيون كثيرون، وإن لم يصل بهم هذا التفكير إلى حد ارتكاب مجازر على غرار ما فعله تارانت أو بريفيك.
لأيديولوجيا الكراهية هذه أيضاً تجلياتها في الشرق. ولعل تنظيم داعش واحد منها. وأيضاً حتى لو لم يكن هذا التنظيم الإرهابي معبراً عن الغالبية العظمى من أبناء المنطقة العربية والإسلامية، إلا أنه استطاع أن يصدّر أفكاره إلى كثيرين في المنطقة وخارجها. ولعل بعض الأحداث التي شهدتها دولٌ غربية، على غرار الاعتداء الذي نفذه أحد المتأثرين بأفكار "داعش" في مدينة نيس الفرنسية في عام 2016، حين اقتحم بسيارته الاحتفال بيوم الباستيل، وغيرها من الأحداث التي كانت دول عربية وغربية مسرحاً لها، والتي لم يكن المختلفون بالدين فقط هم ضحاياها، بل إن إعتداءاتٍ كثيرة نفذها "داعش"، ومن يدور في فلكه، راح ضحيتها مسلمون. فأيديولوجيا الكراهية لا تعترف بدين، هي قائمةٌ بالأساس على تجريم الاختلاف، بغض النظر عن ماهيته، طائفياً كان أو مذهبياً أو عرقياً أو إثنياً.
تنذر جريمة نيوزيلندا اليوم بتفشّي هذه الأيديولوجيا أكثر، سواء بالنسبة إلى المعتدين أو المعتدى عليهم، فأصوات كثيرة خرجت في الغرب، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تمدح ما قام به تارانت. ومؤكد أن كثيرين يعتنقون الأفكار ذاتها سيحاولون السير على خطاه، وهو ما حاول شخصياً قوله في المانيفستو الذي أصدره بعد ارتكابه هذه الجريمة. وعلى المقلب الآخر، لن يختلف الأمر، خصوصاً أن أصواتا كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى على مستويات سياسية عليا، وضعت سياق الجريمة في إطار ديني بحت، وهو ما ينذر بأفعالٍ انتقاميةٍ لن تؤدي إلا إلى تغذية أيديولوجيا الكراهية التي بدأت تفلت من عقالها.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".