يحدث في المشهد الجزائري

يحدث في المشهد الجزائري

16 مارس 2019
+ الخط -
نجح الحراك الاحتجاجي الجزائري العارم في إسقاط العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بوصفها من مطالبه التي لا تتوقف عند هذا المطلب، على الرغم من أهميته، لأن جموع الجزائريين الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية لم تهدأ منذ الإعلان عن ترشح بوتفليقة لولاية خامسة في 10 فبراير/ شباط الماضي، رفعوا شعاراتٍ مناهضة لمجمل ممارسات النظام الجزائري الحالي، وسياساته وتركيبته، وخصوصا الفساد المستشري، وتحكّم مراكز قوى غير دستورية بالسلطة، وبصنع القرار في الجزائر.
ويعي الجزائريون أن مراكز القوى تلك، والتي يدعونها "العلبة السوداء" أو "العصابة"، هي من اضطر إلى كتابة رسالةٍ بلسان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ونصّت على جملة خطوات وإجراءات، تبدأ بسحب ترشحه لعهدة خامسة، ثم إرجاء الانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة في 18 أبريل/ نيسان المقبل، مروراً بتعيين رئيس وزراء جديد ونائبه، ووصولاً إلى الدعوة إلى عقد ندوة حوار وطني، مهمتها إعداد دستور جديد، وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. وذلك كله في سياق محاولةٍ من قوى النظام الجزائري لامتصاص غضب الشارع الجزائري، والالتفاف على مطالب الشعب، علّهم يكسبون مزيدا من الوقت، بما يمنحهم فرصة لإعادة إنتاج النظام بلباس آخر.
وبعكس ما كان يأمله كاتبو الرسالة ويتمنونه، لم تتأخر شخصيات معارضة، وناشطون من 
الحراك الاحتجاجي، في وصف الخطوات والوعود التي حملتها الرسالة، بأنها مجرّد مناورة ومراوغة سياسية، بغرض تمديد فترة نظام العلبة السوداء وإنقاذه، لأن المطلب الأساسي الذي خرج من أجله الشعب، أي التغيير السياسي الجذري للنظام، ورحيل كل المنظومة الفاسدة والمتعفنة، لم يتحقق. واعتبر بعضهم أن ما جاء في الرسالة يرقى إلى مصاف المهزلة التاريخية، لأن المتنفذين في النظام الجزائري أرادوا، من خلالها، تغيير الواجهة فقط، وتحويل مسار الحراك الاحتجاجي الشعبي، بالالتفاف على مطالبه الحقيقية.
ولعل نص الرسالة التي جاءت باسم بوتفليقة يكشف من خلفها، أو بالأحرى كاتبها الحقيقي، إذ لا يعقل أن يقدم بوتفليقة تبريره سحب ترشحه بالقول: "لا محلَّ لعهدة خامسة، بل إنني لـم أنوِ قط الإقدام على طلبها، حيث إن حالتي الصحية وسِنّي لا تتيحان لي سوى العمل على إرساء أسس جمهورية جديدة، تكون بمثابة إطار للنظام الجزائري الجديد الذي نصبو إليه جميعاً"، فإذا كان لم ينو الترشح لعهدة خامسة، فمن الذي أجبره على الأمر؟ بل إنه إن كان يعي حالته الصحية، بوصفه غائباً عن الوعي وعن مجرّد الكلام منذ زمن بعيد، فهل هو أهلٌ لكي يرسي أسس جمهورية ثانية في الجزائر؟
يُظهر ذلك كله أن العلبة السوداء تريد اختزال أزمة النظام الجزائري المستفحلة على الصعد كافة بشخص الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، على الرغم من أن وضعه الصحي مثير للشفقة، بوصفه رجلاً شبه ميت، أو هو على الاقل في غيبوبةٍ منذ سنوات طويلة، وبالتالي ليس هو من يحكم الجزائر، وليس هو من طلب التمديد لنفسه في الحكم، بل رموز العلبة السوداء التي تمادت في استخدام جثمان بوتفليقة حتى الرمق الأخير، ضاربةً ما يعنيه ذلك من انتهاك حرمة الجسد الإنساني، وما يتضمّنه من إساءة لرجل ثمانيني ملكوم، لا يطلب سوى الرحمة، وجالسٍ على كرسيٍّ متحرّك.
والواقع أن العلبة السوداء التي تتحكّم في مركز السلطة وصنع القرار استولت على الدولة 
والمؤسسسات أيضاً، وهي تتمثل في قادة أجهزة الاستخبارات والجيش، وفي شخصيات نافذة، من بينها الاخ الأصغر للرئيس، سعيد بوتفليقة، وبعض قادة حزب جبهة التحرير، إضافة إلى رجال أعمال، وأشباح معارضة للتغير السياسي، ومعارضة لمستقبل أفضل للجزائر.
ويبدو أن هذه المجموعة النافذة التي يصفها بعضهم بالعصابة، تحاول اليوم تنفيذ مخطط قديم، غايته تمكينها من تمديد العهدة الرابعة، من خلال قيادة انتقال سياسي شكلاني، تديره سلطتها بالآليات نفسها، لإعادة إنتاج النظام القديم بحلّة جديدة، من دون تغييراتٍ جوهرية، على أمل أن تستمر في السلطة عامين إضافيين، وبشكل غير شرعي ودستوري، ومن دون انتخاباتٍ رئاسية.
ويأخذ قادة المعارضة الجزائرية على الإجراءات في الرسالة المنسوبة لبوتفليقة أنها لم تشر إلى الواقع المتردّي في البلاد، وخصوصا بعض الجوانب المظلمة للنظام التي شكلت أزمة متعدّدة الجوانب، يتطلب الخروج منها. أولها أزمة نظام الحكم، وثانيها غياب الممارسة الديمقراطية والتداول السلمي الحقيقي للسلطة، فضلاً عن نسبة البطالة العالية جداً، وتردّي الوضع المعيشي لجزائريين كثيرين في مقابل تركز الثروة في أيدي أفراد العصابة القليلة العدد، أصحاب الامتيازات والثروات. يضاف إلى ذلك سياسة التهميش والإقصاء للقوى السياسية الحية وللمجتمع المدني، والارتهان إلى نهج الصراعات القديمة التي لا مخرج منها سوى في حل ديمقراطي، يخرج البلد من الأزمة.
ويعي الجزائريون أن محاولة الالتفاف على مطالب حراكهم الاحتجاجي لن تنطلى عليهم. لذلك خرجوا، عشية إعلان سقوط العهدة الخامسة، للتعبير عن فرحهم في شوارع الجزائر العاصمة، وسواها من المدن والبلدات، لكنهم أيضاً عبروا عن مواصلتهم حراكهم الاحتجاجي، بالخروج، في اليوم التالي، بمظاهرةٍ حاشدة في معظم المدن، وأطلقوا دعوات إلى التظاهر في "جمعة النصر"، تحت شعار "لا لفترة انتقالية تقودها العصابة".
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".