تضعضع التابو الإسرائيلي في الولايات المتحدة

تضعضع التابو الإسرائيلي في الولايات المتحدة

15 مارس 2019
+ الخط -
إذا كان من خلاصةٍ أوليةٍ للضجة المفتعلة حول النائبة الديمقراطية المسلمة في الكونغرس الأميركي، إلهان عمر، فإنها تتلخص في عبارةٍ بسيطة، لكن مفاعيلها الحالية والمستقبلية قد تكون عظيمة: إسرائيل لم تعد "تابو" في الساحة السياسية الأميركية، كما أنها لم تعد قضيةً فوق حزبية، يحظر المسُّ بها أو انتقادها. قد يجادل بعضهم، في هذه الخلاصة، ويرفضونها، متسلحين برد الفعل العنيف داخل الحزب الديمقراطي، كما الجمهوري، على تجرّؤها على مساءلة العلاقات غير الطبيعية وغير المتوازنة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن ما يغفله هؤلاء أن اللوبي الصهيوني، بكل أذرعه في الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع كل حلفائه السياسيين والإعلاميين، عجز عن أن يمرّر قراراً رمزياً يدين إلهان في مجلس النواب. 
غير أن التداعيات الكبيرة بالنسبة للوبي الصهيوني وإسرائيل لا تقف عند ذلك الحد. من ذلك، مثلاً، أن مسألة نمط العلاقات الأميركية - الإسرائيلية تحوّلت إلى قضية نقاش وطني مفتوح تشارك فيه كثير من شرائح المجتمع الأميركي ونخبه. ومن اللافت أن قراءات ناقدة كثيرة، بل قل الساخطة، على النمط المختل لتلك العلاقات لصالح إسرائيل، حظيت بتغطيةٍ إعلاميةٍ واسعة. لقد أطلقت إلهان ماردا طال حبسه في قمقم صغير، وتم لجمه عقودا طويلة، مغبة التطرّق إلى ما تمَّ تصنيفه محظورا في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، أين تحظى دولةٌ صغيرةٌ تدين بوجودها، وأمنها، ورخائها الاقتصادي، وتفوّقها العسكري على أعدائها، للولايات المتحدة، وتحصل على مساعداتٍ سنويةٍ منها بقيمة 3.8 مليارات دولار.. تحظى بأفضلية، إنْ لم يكن باليد العليا، في العلاقات المشتركة! وساهم دخول يهود أميركيين كثيرين، ومنهم مسؤولون سابقون في اللوبي الصهيوني الأميركي، على خط النقاش العام، مدافعين عن إلهان، في نزع 
تهمة معاداة السامية عمَّا قالته، وأثار عاصفةً سياسيةً ضدها، فنقد إسرائيل ولوبيها ليس من صور معاداة السامية والكراهية، ولا ينبغي أن يكونا.
سبق أن كتبت مرتين عبر هذه النافذة في "العربي الجديد" عن الحملة الصهيونية - اليمينية الأميركية على النائبتين المسلمتين، إلهان، من أصولٍ صومالية، ورشيدة طليب، من أصولٍ فلسطينية، شرحت فيهما أسباب هذه الحملة الشرسة وأبعادها، وهي حملةٌ لم تتوقف يوما منذ ترشحهما ونجاحهما. ما يغيظ اللوبي الصهيوني، بالدرجة الأولى، تأييد النائبتين، بشكل صريح وواضح، حملة المقاطعة الدولية لإسرائيل، المعروفة اختصارا "بي دي أس"، بسبب احتلالها وجرائمها بحق الفلسطينيين. تكتسب حملة المقاطعة زخما عالميا، خصوصا في أوروبا، وهي تتنامى، بشكل كبير وسريع، في الولايات المتحدة، خصوصا في الجامعات والكنائس الأميركية، وبين يهود أميركيين شبابٍ كثيرين، وهو ما دفع اللوبي الصهيوني إلى محاولة تجريمها بالتنسيق مع حلفائه، عبر سنِّ قوانين غير دستورية في الولايات الأميركية، وفي الكونغرس الفدرالي نفسه. لكن إلهان، تحديدا، نقلت المعركة مع اللوبي الصهيوني النافذ خطوة أخرى إلى الأمام، حيث وضعت مسألة ولائه على المحك، ملمحةً إلى أن ولاءه بالدرجة الأولى لدولة أجنبية، هي إسرائيل، وليس للولايات المتحدة، وأن سياسيين أميركيين كثيرين يغضون الطرف عن هذه المسألة، بفعل الأموال التي يغدقها عليهم ذلك اللوبي.
لم يتأخر رد اللوبي الصهيوني، فعمد إلى تشويه ما قالته إلهان، وخلطه، بشكل متعمد ومقصود، مع اتهام عنصري يوجه لليهود، من حيث كونهم يهودا، بأنهم لا يدينون بالولاء للدول التي يقيمون فيها، ويحملون جنسيتها، كما أنهم يستخدمون الأموال لإفساد المجتمعات. طبعا، لم تقل إلهان أيا من ذلك، ولو أنها قالته لأدانها الجميع، ولما وقف أحدٌ معها. ولكن اللوبي الصهيوني المدرك خطورة تسليط الضوء على نفوذه الكبير في واشنطن، واختلال العلاقات الأميركية –الإسرائيلية، لم يجد أمامه إلا اتهام إلهان بمعاداة السامية، في محاولة لردع أي نقاشٍ في الموضوع وخنقه في مهده. وبدعم من أعضاء كثيرين في مجلس النواب، من الحزبيْن، الديمقراطي والجمهوري، عمل ذلك اللوبي على محاولة تمرير قرارٍ يدين إلهان، ويساوي بين انتقاد إسرائيل ولوبيها في الولايات المتحدة ومعاداة السامية.
لقد ظن اللوبي الصهيوني أنه استعاد زمام المبادرة، فالغالبية في الكونغرس تؤيده، أو تجامله، أو تخشاه، لا فرق. لكن المفاجأة كانت في عجز مجلس النواب عن تمرير القرار بصيغته الأولى، ليس لانعدام أغلبيةٍ مؤيدةٍ له، بقدر ما أنه كاد يفجر الحزب الديمقراطي من داخله، ويمزّقه بين القاعدة اليسارية والتقدمية فيه، والتي يتصاعد نفوذها في الحزب، وتنتمي إليها كل من إلهان ورشيدة، وبين مؤسسة الحزب الشائخة والمحتاجة إلى القاعدة الشبابية، إن أرادت أن تبقى على الخريطة السياسية. وأمام المقاومة العنيفة من داخل الحزب الديمقراطي، ورفض 
مرشحين عنه للرئاسة، أمثال أعضاء مجلس الشيوخ، بيرني ساندرز، وكامالا هاريس، وإليزابيث وارين، وكوري بوكر، اضطرّت قيادة الحزب، ورئيسة مجلس النواب، الديمقراطية، نانسي بيلوسي، إلى تقديم مشروع قرار آخر، يدين كل أشكال العنصرية والكراهية، بما في ذلك معاداة السامية والإسلاموفوبيا والتمييز العنصري ضد الملوّنين. ولم يشر القرار الذي حصل على دعم أغلبية النواب، بالاسم، إلى إلهان وتصريحاتها، أبدا، وهو ما أغضب جمهوريين وديمقراطيين كثيرين. بل إن الرئيس، دونالد ترامب، اتهم الحزب الديمقراطي بأنه "كاره لليهود"، بسبب هذا القرار، على الرغم من أنه سبق له مرّاتٍ عدة أن أطلق، هو نفسه، تصريحاتٍ معاديةً للسامية لا لبس فيها.
باختصار، يتخوف كثيرون من أن إلهان ورشيدة ربما لن تنجحا في انتخابات عام 2020، جرّاء اصطدامهما مباشرة باللوبي الصهيوني النافذ. قد يحدث ذلك، خصوصا وأن ذاك اللوبي، وتيارات يمينية، وأخرى داخل الحزب الديمقراطي، لا يخفون جهودهم في هذا السياق، وإن كان ذلك لا يعني أنهم سينجحون أيضا. لكن ما لا يفهمه كثيرون أن رشيدة وإلهان، وخصوصا الثانية، أطلقتا نقاشا وطنيا مفتوحا بشأن ما كان يعد محظورا في السياسة الداخلية الأميركية، وسيكون له ما بعده. ويوما ما، قد يسجل التاريخ الأميركي إلهان شخصيةً أسست لتغيير عميق في بنية النظام السياسي الأميركي وتفاعلاته، وذلك بحد ذاته إنجاز عظيم، لا ينبغي التقليل من وطأته. الإرث العام أكبر من مصالح شخصية آنية، ومع تمنياتنا أن تترك النائبتان إرثا عاما، وهو الأهم، فإننا نتمنّى أيضا، أن تحتفظا بمقعديهما في مجلس النواب، أو ما وراء ذلك. أخيرا، لا يعني هذا أن المعركة انتهت، أو أنها حتى شارفت على الانتهاء. قد تكون هناك نكساتٌ كثيرةٌ على طريق ما نحبه ونريده، غير أن ذلك لا يغير من أن على إسرائيل ولوبيها بذل جهود مضاعفة للحفاظ على مكتسباتهما السابقة.