لطفيّة الدليمي.. سيّدة تحمل الورد

لطفيّة الدليمي.. سيّدة تحمل الورد

07 فبراير 2019
+ الخط -
في بستان الكتابة متفرّدة. تقول نفسَها بلا زعيق، وتحكي بلا ادّعاء ولا نزق، وتحجب لروحها ما تحب، كخيطٍ رقيقٍ مضمر في الحكاية، كأنها تحكي من بغداد، أو من حديقةٍ غامضةٍ في أصفهان، أو من حديقة اندثرت في قريتها (ديالى)، حكاية طفلة رأت، وتحاول جاهدةً كتمانه من دون أن تستطيع. عمرها مليء بالمجاهدة، من دون أن تجعلها تجارةً في السوق. هي خفيفة السر ورقيقته وصاحبته من دون كآبة أو ظن. كتابتها تشبه غناء الحيارَى، ولوعتهم وطيبة سرائرهم. لها مقامٌ في القول، يخصها من أكثر من خمسين سنة، مقامٌ محروسٌ بها، ومنذورٌ لها، ولها لغة تخصّها، لغةٌ تعني بخفةٍ، ولا تصيح، ولا تتقعر من قاموس. هي حفيدة شهرزاد، وكارهة السيّاف، وإنْ أضمرت ذلك.
هي دائما في متاهةٍ آمنة من صنعها، ومن خميرة صبرها، عقلها يحكمها ببعد النظر إلى العالم والأشياء والعقائد والأديان والأخطاء، وقلبها يتخاطفه الغناء والورد والسفر والسؤال عن الآخر، والناس مهما كانوا ومهما اعتقدوا.
أخذت من الفيزياء النظر إلى الظواهر، ومن روح الإنسان الغناء والطرب، ومن البساتين أخذت الورد والزهر والروائح. حماها الورد وخجله من فضيحة القول، وحمتْها الكتابة من الغربة عن ديارها. لا تستهتر بالكتابة، ولا تتوجس إن اقتربت منها. دائما منغمسةٌ في إنتاج المزيد من غير استعراضٍ أو شكوى. متعدّدة المعارف بكل جوانبها، من دون أن تدّعيها أو تحيكها أو تستعرضها، تخجل كطفلة، وتسهر كحارسة على حلمها وكتاباتها. عاشت عشرين سنة في أجواء الحرب، من دون أن تمسّ الحرب سماحتها أو عفويتها أو انتظارها لكل جميلٍ تبنيه بأصابعها، عاشت الحرب، ولم تنل منها القسوة، وعاشت الوحدة، ولم تنل من هدوء روحها.
هي حارسةٌ للورد، ولا تشغلها قسوة السنوات إلا قليلا. تترجم بدأبٍ، وتبدع وتقرأ بعيدا عن الأضواء، ولا تنتظر إلا الفرح، كطفلة من ديالي تركت البرتقال في قريتها، ورأت القنابل أمام باب بيتها، وهي السيدة الوحيدة سنوات، حتى تركت بغداد مجبرةً، لأنها خافت على أحلامها. لا تدّعي بطولةً في أي شيء، ولا حكمة، فقط تكتب وتسهر مع صبرها، من دون أن يفارقها الأمل، أي أملٍ يخص روحها وبستانها الذي تركته كحلم، مرة في ديالي، ومرة في بيتها في بغداد.
تعايشت مع الوحدة المثمرة، فكتبت وترجمت أجمل أعمالها، وكتبت للصحافة من دون أن تتنازل عن المبدعة التي فيها، ومن دون أن تمتصها الصحافة، ومن دون أن تستطيع مفارقتها حماية لكرامتها الإنسانية. تهل على الدنيا كقمر، ثم تغيب بالسنوات مع الكتابة، من دون أن تيأس أو تدّعي يأسا أو حاجة. تحمي نفسها بالصفاء، وتواصل العيش من دون أن تطلب شيئا لنفسها.
قالوا عنها هي "نخلة العراق" لصبرها، وبعضهم سمّاها أم البساتين. وهي فقط الوردة، وهي حاملة الورد من دون كلل، في حياتها، وفي كتاباتها، وفي غنائها حينما تكون سعيدةً وسط صديقاتها ومعارفها. طيبة مع العالم بأسره، وتعرف الأصول مثل شيخة عرب، شريفة، من دون زيف أو كبر ممقوت.
الكتب صنعتها، والكرم فرحها، والناس عندها مثل كل الناس في كل مكان. تتعامل مع العمر، عمرها، كوردة صغيرة في بيتها ترعاها، حتى تحقق مزيدا من الفرح لحياتها في بستان عمرها الممتد، وتلتفت إلى الوراء قليلا في ساعات حزنها أو شجنها، متذكّرة مكتبتها في بغداد، أو صوت عندل كان يغني ليلا من فوق شجرة التين، حينما ينضح ويسكر من خمرة التين الناضج، حينما يشرب عطشان من العسل النازل من التين. وأحيانا تغني بشجن: "يا زارع البزرنقوش، هات لنا حنة"، وهي أغنية الشيّاب في شرق العراق، للعمر الذي ولّى منهم، شوقا وطمعا في طلب الحنّة، كي يخضّبوا لحاهم، تمسّكا وفرحا بالحياة وبأيامهم الباقيات. هكذا هي لطفية الدليمي، تغنّي لأسى الرجال قبل النساء، ولا تناصبهم أي عداءٍ في شيء، فهم مساكين، عندها، أيضا، وإن تستّروا بعنفٍ أو قسوة.
لا تفصلها عن الرجل أيديولوجية أو مذهب أو دعوة، بل ترى كليهما، الرجل والمرأة معا، هما ضحايا الدكتاتورية في العالم كله من أقصاه إلى أقصاه، سواء في الغرب أو الشرق أو في بلاد العرب، فهي تدرك أيضا أن هناك دكتاتورية ناعمة في الغرب المتحضر على المرأة، ولكن تتم بقفازاتٍ من حرير.