مصر.. رائحة الموت في كل مكان

مصر.. رائحة الموت في كل مكان

01 مارس 2019
+ الخط -
كنت أهم بكتابة هذا المقال عن تنفيذ إعدام خمسة عشر شابا في نحو أقل من أسبوعين في مصر. أثار ذلك الحدث قدرا من وجع الناس وآلامهم، حينما رأوا صور الشباب وذكرياتهم. ثم وقعت حادثة أدت إلى مقتل نحو 30، وأصيب نحو مائة، كما أكد شهود عيان، في حريق ناتج من اصطدام قاطرة وانفجارها، وهم من الواقفين على الرصيف أو السائرين إلى وجهتهم، عاجلتهم النيران فلحقت بهم. تذكّرت حادث قطار الصعيد في عهد حسني مبارك المخلوع، وقد قضى فيه 361 شخصا، صبيحة يوم عيد آنذاك في العام 2002. تدل هذه الحوادث، وغيرها، على عدم الاهتمام بخدمات الناس، وعلى حالٍ من الإغفال والإهمال والاستخفاف، وتشير إلى قدر هؤلاء الناس في عيون طغاةٍ ظلوا يحكمون ويتحكّمون في هذا البلد، لم يقدموا لنا إلا مزيدا من القتلى هنا أو هناك في كل أرجاء الوطن.
مشاهد الموت تلك مع تداعيها تستدعي في ذاكرة الجميع سؤالا: من تاجر الموت هذا الذي يرسل إلينا كل يوم عشرات من المواطنين القتلى، ليتخذوا أماكنهم في مقابر مصر؟ وفي المقابر يعيش أموات مع أحياء، ويعيش أحياء كالأموات. تفوح رائحة الموت من كل مكان.. من هذا الذي احترف تجارة الموت، حتى يضيف إلى أمواتنا وقتلانا جديداً كل آن؟ لا يمر يوم إلا ونرى قتلى من شباب ومن مواطنين عاديين، وكأن قطار الموت، بمحطاته المتعدّدة، صار يسقط منه كل يوم أكثر من قتيل. هنا فقط وفي شهر فبراير/ شباط الذي انقضى، في هذه السنة البسيطة، ولكنها كبيسة بعالم أحداثها، توالت الكوارث، واستقبلنا في هذه السنة قتلى وأمواتا جددا.. رائحة القتل تفوح في كل مكان في مصر.
أرأيت الجنود الخمسة عشر على أرض سيناء، وقد قضوا في حادث استهدافٍ أدى إلى مقتلهم؟ أرأيت تلك المبادرة من جهاز الأمن الذي لم يعد يفوّت حادثة، إلا بتصفية بالقتل العمد خارج 
إطار القانون، ويحاول، من كل طريق، أن يلصق بهم قتل من قتلوا؟ أرأيت هؤلاء الذين سيقوا إلى مشانقهم في إعدامات خطيرة وحقيرة، يقوم بها سفاح لا يشبع من دماء، ولا يقيم لها وزنا أو حسابا، ويحكم بها قاضٍ يستخف بالدماء، ويصدّق عليها مفتٍ لا يرى بأسا في إراقة مزيد من الدماء؟ أرأيت هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم على قضبان المترو منتحرين؟ أرأيت هؤلاء المطاردين في كل مكان، والمختطفين قسريا، تلفق الأجهزة الأمنية التهم لهم، ثم تصفيهم في أي أرضٍ كانت؟ أرأيت هؤلاء الذين قتلوا من قبل في قضية النائب العام؟ قتلوهم ثلاث مرات، نسب إليهم تدبير قتل النائب العام، ثم تستكمل الحلقة بعدد آخر، ليقوم بإعدامهم. ما تلك المشاهد التي تفوح منها رائحة الموت من كل مكان في مصر، ولكن الطاغية أراد أن يجعلها مقتلة، يقتل هؤلاء بهؤلاء، ويستمتع بمزيد من الدماء. هل ننتظر قتلى جددا في حوادث وكوارث في إعداماتٍ ومطارداتٍ، في تلفيقات قضايا أو في تصفيات؟ ما بال هذه الأخبار التي ترد إلى مسامعنا كل يوم وكل حين.
ثم يأتي هذا السفاح، إذا ما احتج الناس، واحتج العالم، فيقول في كلام فاجر.. إن هؤلاء الناقدين الساخطين لا يفهمون ثقافتنا ولن يعلمونا إنسانيتنا، إنسانيتكم غير إنسانيتنا، ولنا خصوصية، والناس كلها تعرف ثقافتنا. يشير بذلك إلى القصاص، إلى أن من قتل يُقتل، ليتلبّس مسوح الرهبان والوعاظ. السفاح يعظ، ويعظ الناس جميعا بأن قتله كل هؤلاء هو من ثقافة الإنسانية عنده، وينتمي إلى دائرة القصاص.. أيها السفاح، لو كنت تعلم ما القصاص لكنت أوْلى بالمحاكمة على ما اقترفت. أيها السفاح، ألا تعرف كم من مجازر ارتكبتها، وكم من مظلومين قتلتهم، وكم من عزّلٍ ألقيتهم في المقتلة، وكم من مختطفين قسريا أظهرتهم بعد قتلهم، وكم من هؤلاء صفّيتهم خارج إطار القانون، بدعوى الحفظ على الأمان والاستقرار؟ وكم من هؤلاء أرسلتهم إلى أعواد المشانق بأحكام إعدام ظالمة جائرة فاجرة؟ قال لقاضيك أحد الذين أعدمتهم إنه اعترف تحت التعذيب، وإنه لم يرتكب إثما ولا جرما. أرأيت هؤلاء الشباب الذين ينتحرون ضيقا وقنوطا ويأسا وضنكا وفقرا. إنها المقتلة والمجزرة، وبعد ذلك يتحدّث السفاح عن القصاص. لو كنت تعلم كم قتلت، وكم ظلمت، وكم طاردت، وكم اعتقلت، لكنت أوْلى أنت بالإعدام والقصاص.
هل تعرف مثلا أنك قتلت خمسا من الأرواح، مدعيا أنهم قتلة الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، من قتلتموه، وقالت أمه: "لقد عذبوه كما لو كان مصريا"؟ وإلى الآن، تراوغ وتخفي وتتخفى وتداور وتقتل باسم مقتول، ثم تتحدث بفخر عن الإنسانية وعن القصاص. هل تعرف أنك قتلت من قبل شبابا ناهضا، وتسببت في قتل شباب في ميادين، وفي موقعة الجمل وفي استاد بورسعيد في إدارة المجلس العسكري الذي أدار الفترة التي قضاها بالكوارث، كنت أنت وراء كل كارثة، ووراء كل مقتلةٍ من أطراف ثالثة احترفت إسناد القتل إليهم، وما هم إلا أدوات لك ولغيرك.
أيها القاتل السفاح، كم يكفيك من الدماء حتى تشبع، وتقام من الجنازات حتى تردع، كم يكفيك 
من القتلى، ومن الأموات، في كل مكان، ولا نرى منك إلا مزيدا من استخفافٍ بالأرواح. بغول غلاء أطلقت، وبإفقار متعمد خططت، وبإذلال شعبٍ بأسره، ومن عارضك سجنت. كم يكفيك من الدماء، وأنت الذي تحاول أن تتحكّم في العباد وفي البلاد حتى العام 2034، لتمارس قتلك اليومي بالفظاعة وبالشناعة، لتروّع الناس في كل مكان في مصر، لتقضي على أي بصيصٍ من أمن لهؤلاء الناس على حياتهم وعلى عيشهم. ذلك كله وأنت تتحدّث عن القصاص، فهل تعرف معنى القصاص الذي سيكون يوما حتما عليك، وعلى مسيرتك في الاستخفاف بحياة الناس، بما ارتكبت من مجازر، محتميا خلف أقنعة، وخلف من ساندوك ودعموك، معتمدا كل خديعة وغدر.
يا هذا، لم تعد لنا قدرة على تحمل أن ترسل إلينا قتلى جددا، أو أن تعتقل شبابا لم يقترف أي جريمة سوى أنه آمن بالأمل، وثار مع من ثاروا، واشتاق إلى حياة كريمة وعزيزة. أيها السفاح، توقف عن وعظك. أيها السفاح، لا بد أن تعرف أن القصاص يوما ما سيطاولك، وعندها ستعرف معنى القصاص الذي لم تعرفه يوما، فاستخففت بكل نفسٍ بريئة، وبكل دماء زكية أرقتها في كل مكان في مصر، فاحترفت القتل، حتى هؤلاء الذين ركبوا القطار مسافرين، سعيا على معاشهم، فإنهم واجهوا قطار الموت، حينما استخففت بهم، وأعلمت أن المليارات التي يمكن أن تدفعها لإصلاح حالة السكة الحديدية لم تدفعها استخفافا بحياة الناس، وتأكيدا أن من رشد تفكيرك أن تضع تلك الأموال في البنوك، حتى تقتنص فوائدها، وكأن إنقاذ أرواح الناس بخدماتٍ، يدفعون الضرائب حتى يُرتقى بتلك الخدمات، ترى، أيها السفاح، أننا لا نستحقها لتزفّ إلينا قتلى جددا في طابور الأموات، ثم يقول تحيا مصر، تحيا مصر، فهل تحيا مصر بمزيد من قتلاك، وقد فاحت من كل مكان رائحة الموت فيها؟ ما كنت ستفعل لو كنت تعلم ما القصاص؟
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".