وارسو وحلم الشرق الأوسط الإسرائيلي

وارسو وحلم الشرق الأوسط الإسرائيلي

24 فبراير 2019
+ الخط -
خلال مشاركتهما في مؤتمر وارسو لتعزيز الأمن والسلام في الشرق الأوسط، والذي عقد منتصف شهر فبراير/ شباط الجاري برعاية أميركية، وصف مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي، المؤتمر بأنه بداية "عهد جديد"، ووصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنه "نقطة تحول تاريخية". وتذكّر هذه التصريحات بتحولاتٍ كبرى شهدتها المنطقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديدا منذ انطلاق مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية في أوائل التسعينيات. حيث دأب بعض مسؤولين أميركيين وإسرائيليين على وصف تلك التحولات بأنها بدايات "شرق أوسط جديد" سيغير وجه المنطقة، وينهي الخصومة بين العرب وإسرائيل، ويضع الدول العربية الحليفة مع أميركا في معسكرٍ واحد مع إسرائيل ضد خصومهما.
في أوائل التسعينيات، ردّد مسؤولون إسرائيليون، ومنهم شيمون بيريز، المصطلح للتبشير بشرق أوسط جديد أكثر قبولا بإسرائيل بعد عملية السلام. وفي 2006، ردّدت وزيرة الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس، المصطلح نفسه مبشّرة بشرق أوسط جديد، يضم الدول الحليفة مع أميركا وإسرائيل والعراق، بعد أن غزته أميركا في 2003. وفي الحالتين، كانت الدعوة أميركية- إسرائيلية بالأساس، تهدف إلى إعادة بناء المنطقة وفقا لتصور أميركي – إسرائيلي، يقدّم مصالح البلدين، ويفرض على النظم العربية القبول بإسرائيل تحت الضغط الأميركي في مرحلة القطبية الأحادية، وفي غياب أي تأثيرٍ يذكر للقطب الروسي، وتحت تبريراتٍ مختلفة كتحقيق السلام أو محاربة الإرهاب.
مبرّر السلام استخدمته أميركا في أوائل التسعينيات، للضغط على العرب للقبول بإسرائيل في مقابل إحداث تقدم في المفاوضات، والتي توقفت مع صعود قوة اليمين الإسرائيلي، وتفضيله 
الحلول الأحادية على تقديم أي تنازلات للفلسطينيين. أما "الشرق الأوسط الجديد" الذي نادى به الرئيس الأسبق، جورج بوش، فقد ارتبط بحروبه في المنطقة، بعد أحداث "11سبتمبر" في العام 2001، وحربه على الإرهاب. حيث غزا العراق، وطالب الدول العربية بالإصلاح السياسي. ولكن سرعان ما تراجع، بسبب أخطائه في العراق، وصعود التيارات الدينية في الانتخابات التي شهدتها المنطقة في العامين 2005 و2006، وتمدّد إيران في العراق.
ويبدو حديث نتنياهو وبنس، في وارسو، عن "العصر الجديد" و"التحول التاريخي"، مشابها للدعوتين السابقتين، فهو ينطلق من المصالح الأميركية - الإسرائيلية، ويدور حول حلم بناء تحالف إقليمي يضم النظم العربية الحليفة مع أميركا وإسرائيل، في مواجهة خصومهما (إيران حاليا).
ولعل الجديد هنا أن الدعوة هذه تأتي بعد ثماني سنوات من الإعلان عن "شرق أوسط جديد"، مغايرٍ للذي روجته أميركا وإسرائيل منذ أوائل التسعينيات، ففي الثلاثين من يناير/ كانون الثاني 2011، صدرت صحيفتا معاريف ويديعوت أحرنوت الإسرائيليتان بعنوان رئيسي، وهو "الشرق الأوسط الجديد"، من دون تنسيق مسبق، في الإشارة إلى ما يجري في مصر بعد انتفاضة المصريين ضد نظام مبارك. ("نيويورك تايمز" 31 يناير/ كانون الثاني 2011).
في ذلك الحين، حذرت الصحف الإسرائيلية من طوفانٍ يجتاح المنطقة، بسبب ثورات الشعوب العربية، ورأت إسرائيل الرسمية في تلك الثورات تهديدا تاريخيا لمصالحها ينذر بانهيار استراتيجيتها الإقليمية، القائمة منذ توقيع معاهدة السلام مع مصر في نهاية السبعينيات، والتي تقوم على السلام البارد مع النظم الاستبدادية العربية الحليفة لأميركا، وسمح لها بالتركيز على التهديدات الصغيرة والبعيدة لأمنها، فبدلا من الانشغال بحرب مع مصر أو غيرها من دول الطوق، استطاعت إسرائيل التركيز على الصراع مع جماعاتٍ صغيرةٍ، مثل حركة حماس وحزب الله، ودولة بعيدة كإيران.
رأت إسرائيل في انتشار الحرية والديمقراطية في الدول العربية تهديدا بشرق أوسط جديد، تحصل فيه الشعوب العربية على حقوقها، فتطالب بتطبيق العدالة والمساواة في الداخل والخارج، ومن ثم ترفض الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني. لذا تحالفت إسرائيل مع قوى الثورة المضادة، وخصوصا في الخليج العربي (السعودية والإمارات)، والمؤسسات الأمنية الحامية للنظم القديمة، كالجيش المصري، لإسقاط "الشرق الأوسط الجديد" الذي بشّرت به الثورات العربية.
وفي هذا السياق، يبدو مؤتمر وارسو محاولة أميركية - إسرائيلية لإحياء حلم "الشرق الأوسط الجديد"، ولو بدا أكثر تشدّدا من أي وقت مضى، بعد أن نقلت أميركا سفارتها إلى القدس المحتلة، وقطعت مساعداتها عن الفلسطينيين، مستفيدةً من حالة الرعب الوجودي التي تعيشها نظم الثورات المضادة منذ الربيع العربي، والتي تبدو حريصةً على رد الجميل لإسرائيل ولليمين الأميركي المتشدّد، بعد مساعدتهم في القضاء على الثورات.
لم تعد الولايات المتحدة في وارسو العرب بأي تقدّم في مفاوضات السلام بين الفلسطينيين 
والإسرائيليين، بل كان المؤتمر محاولةً لعزل الفلسطينيين، وإشعارهم بأنهم لم يعودوا أولوية للنظم العربية، كما ركز دينيس روس، مفاوض السلام الأميركي السابق، في تغريداتٍ له من داخل المؤتمر. ولم تطالب أميركا في وارسو النظم العربية بأي إصلاحاتٍ سياسيةٍ، كما فعلت في 2006، بل عقد المؤتمر في بولندا، والتي تعاني ديمقراطيا. لذا بدا ما حدث في وارسو أبعد ما يكون عن تحالفٍ قائم على القيم والمؤسسات المشتركة. في المقابل، بدا وكأنه تحالفٌ مصلحيٌّ غير دائم، جمعت فيه إدارة ترامب مجموعة من حلفائها على هدفٍ تريد تحقيقه، بغض النظر عن مصالح أعضاء التحالف نفسه. ولذا شاركت دول الخليج في المؤتمر، من دون حل أزمة حصار قطر، وشاركت النظم العربية في المؤتمر من دون مخاطبة أزماتها الداخلية المختلفة، وشاركت إسرائيل في المؤتمر من دون أي حديث جاد عن متطلبات السلام. وفي المقابل، تسابقت دول الثورة المضادة إلى التعبير عن دعمها للمؤتمر لتطابقه مع رؤاها، فهي أيضا ترحب بشرق أوسط جديد، يعادي الديمقراطية، ومشغول بمحاربة الجماعات الدينية، وإيران بدلا من الإصلاح السياسي.
وظهر هذا الدعم واضحا في التسجيل الذي سرّبه نتنياهو، من داخل المؤتمر لبعض الصحافيين لتتلقفه وسائل الإعلام، قبل أن يحذفه. ويُظهر التسجيل جزءا من ندوةٍ مغلقة أدارها دينس روس، وشارك فيها وزير خارجية البحرين خالد آل خليفة، ووزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، ووزير الدولة للشؤون الخارجية في السعودية عادل الجبير. وعبر البحريني عن ندمه لأنه تربّى يعتقد أن "القضية الإسرائيلية الفلسطينية هي الأهم"، مؤكدا أنه أدرك، في مرحلةٍ تالية، أن هناك "تحديا أكبر"، وهو التحدي الإيراني، وأن إيران هي سبب عدم حل مشكلات المنطقة، بما في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما أكده الجبير الذي أشار إلى أن إيران هي من تدعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، أما بن زايد فقد دافع عن اعتداءات إسرائيل على سورية باعتبارها "دفاعا عن النفس".
وهكذا يبدو مؤتمر وارسو محاولةً لإحياء حلم "الشرق الأوسط الجديد" بمفهومه الأميركي –الإسرائيلي، بعد أن هدّده الربيع العربي بالفناء. "شرق أوسط جديد" مدفوع بضغط أميركا لبناء تحالف عربي يضم إسرائيل، تحالف مع النظم لا يبالي بالشعوب ومصالحها، وينشغل بمحاربة التيارات الدينية وإيران. لذا رحبت به نظم الثورة المضادّة، والتي بدت أكثر استعدادا للحضور والمشاركة، ولعب أكثر بطاقاتها فجاجة، مثل تجاهل حقوق الفلسطينيين والتطبيع الفج مع إسرائيل.
وعلى الرغم من كل ما سبق، خرج المؤتمر ضعيفا باهتا بلا نتائج تذكر، لأنه عقد في سياق دولي وإقليمي مغاير، فالقطب الأميركي بات أضعف بكثير، وهو اليوم مشغولٌ بسحب قواته من المنطقة، وليس بخوض حربٍ جديدة ضد إيران. وباتت روسيا أكثر توغلا في المنطقة، وبدا اجتماعها مع إيران وتركيا في سوتشي موازنا للمؤتمر الذي لم تتحمس له بعض أكبر الدول الأوروبية، كألمانيا وفرنسا، في ظل انقسام أميركي أوروبي متزايد. ويظل الربيع العربي حيا في الأذهان منذرا ومبشرا، ولو بعد حين، بمشروع "شرق أوسط جديد" مناقض للمشروع الأميركي - الإسرائيلي.