في ذمّة النسيان

في ذمّة النسيان

11 فبراير 2019

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
قال الشاعر الأردني الراحل حبيب الزيودي، ذات قصيدة نبطية "وإذا تتبدل الأيام/ حنا ما تبدلنا"... أصبحت القصيدة فيما بعد أغنية جميلة الكلمات، عذبة اللحن، ذائعة الصيت، بعنوان صباح الخير يا عمّان، بعد أن غنتها المصرية أنغام، بلهجةٍ بدويةٍ ركيكةٍ، تخالطها لكنةٌ مصريةٌ جليةٌ، لم تستطع المغنية ذات الصوت الشجي التخلص منها، على الرغم من تدريبها الحثيث. قال الزيودي، رحمه الله، العبارة غير الدقيقة، على الرغم من فهمه العميق طبائع البشر المفطورة على التقلب، في سياق مديح طوباوي حالم لصفة الوفاء المفترضة في النفس الإنسانية، الصفة التي نعتقد، من باب التمنّي، أنه لن يمسّها تغيير أو تبدل مهما كان جذريا. 
ليت الأمر كان بهذه البساطة، أيها الصديق الذي غاب قبل الأوان بكثير، لأن التغيير والتبدل صفتان إنسانيتان، أورثتنا إياهما أمنا الأرض في دورانها الأبله العبثي، غير العابئ بأحدٍ، مهما تميز أو علا شأنه. وبكل الأسى الممكن، علينا الإقرار بأنه ليس لدى هذه الأم غير الرؤوم، ذات القلب الحجري الصلد، استثناءات من أي نوع. في نهاية الأمر، سوف يتساوى الجميع تحت الثرى، وأنت القائل في وجودك العابر فيها "عشت الحياة كما يليق بمرّها ومرّها/ وكما يمرّ السهم من جسد الغزال مررتُ وحدي/ وكنت في برية الدنيا ولكن الرماة بلا عددِ". والوفاء صفةٌ نبيلةٌ مشتهاةٌ يجب علينا استخدام مداركنا وإعادة النظر قبل صرفها جزافا لمن لا يسحقّها، على ضوء الجحود والنكران الذي يبديه المجموع، في تقليدٍ راسخٍ حال خفوت الأضواء وإسدال ستارة النهاية.
أنت مثلا شاعر الأردن الكبير، صاحب الموهبة الفطرية والخيال الجامح واللغة الطيّعة العميقة، والقصائد الرهيفة التي تشبه الأنين الخافت. طفل بدوي مشاكس حزين سريع الحرد. أفنى عمره القصير في عشق الأرض وناسها. ماذا تبقى منك فيها سوى بضعة دواوين، قد تهم نفرا قليلا من الدارسين، واسم جائزةٍ هزيلةٍ لا ترقى لعظيم منجزك، تمنح من باب الترضية وجبر الخواطر لشعراء جلهم من المدّعين عديمي الموهبة. وكذلك قضى من قبلك مؤنس الرزاز، الروائي والمثقف الفذ، الوجودي الساخر المعذّب، المسكون بهم الإنسان. مؤنس، وهو الزاهد المستغني، الخارج عن الأعراف، تمسّكا منه بوجع الحقيقة، المتأمل عن بعد، الرافض للمكرّس القبيح من واقع سياسي واجتماعي، المتنبئ عميق الرؤية في رواياته ومسرحياته ومقالاته وحضوره الإنساني، القلق المتوتر، والخشن أحيانا، المبدع الذي كان، قبل سنوات قليلة، النجم الأكثر سطوعا في الساحة الثقافية الأردنية، ماذا تبقى منه في ذهن المجموع سوى أنه الشقيق الأكبر لرئيس الوزراء الحالي؟ يستخدم نواب أردنيون جهلة عناوين روايات مؤنس التي لم يسمعوا بها من قبل، ولم يقرأوا حرفا منها، من باب المناكفة السياسية، وبقصد إحراج الرئيس ليس أكثر.
لا تحدّثني عن الوفاء، يا حبيب، في بلد مرّت به روائيةٌ استثنائيةٌ لا تقل تميزا عن روائيات عالميات، وثّقت الشتات الشركسي، إثر اللجوء الجماعي من القفقاس صوب بلاد الشام، هربا من بطش قياصرة روسيا صوب بلاد الشام. استرجعت زهرة عمر ملامح حياة الشركس، قبل ما يزيد على مئتي عام، أساطيرهم، نمط حياتهم، وقصة شقائهم، في رواية يتيمة فذّة من جزئين. من يعرف شيئا عن تفاصيل حياة هذه المرأة المبدعة، العصامية المكافحة، الحرّة التي تصلح درسا وعبرةً لنساءٍ كثيرات، وقد أخذت على عاتقها تنشئة أطفال رحل والدهم في سن مبكرة، عبرت مثل نسمةٍ، من دون أن تثير جلبةً قبل رحيلها، بعد معركةٍ شرسةٍ مع مرض السرطان.
تبدو كلمة الوفاء، في هذا السياق، مضحكةً، حين نستذكر جنازة العلامة الكبير إحسان عباس الذي أثرى المكتبة العربية بعدد هائل من مؤلفاته القيمة في الأدب والتراث. وكان بيته صالونا أدبيا مفتوحا للجميع من طلاب وأدباء لم يتجاوز عدد المشيعين في جنازته العشرة، بحسب شهود عيان.
من يتذكّر أيا من هؤلاء، وغيرهم من مبدعين أردنيين باتوا في ذمّة النسيان، في هذا الزمن المتخم بالأنا المتورّمة المولع بالألقاب المجانية الزائفة، والجوائز التقديرية المفبركة، والنجوم الافتراضيين من سارقي النصوص بلا خجل، زمن هجين متوحش مؤسف، عديم الوفاء، بارعٌ في التنصّل من كل ما هو أصيل. ويقتل بلا رحمة أجمل ما فينا بذريعة الحداثة وما بعدها.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.