كل هؤلاء المنتحرين في مصر

كل هؤلاء المنتحرين في مصر

29 ديسمبر 2019
+ الخط -
تداول مناصرو الثورة المصرية في 13 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 آخر كلمات كتبتها الناشطة المصرية الراحلة زينب المهدي على صفحتها في "فيسبوك" قبل أن تُغلِقَ الصفحة إلى الأبد: "تعبت استهلكتُ مفيش فايدة، إحنا بنفحتْ في مياه، مفيش قانون خالص هيجيب حق حد، بس احنا بنعمل اللي علينا، آهه كلمة حق نقدر بيها نبص لوشوشنا في المراية، من غير ما نتف عليها...".
عقب كتابتها هذه الكلمات بأسابيع، فعلتها زينب، ذات الاثنين والعشرين عاماً، إذ أقدمت على شنق نفسها، خصوصا لمّا انهارت أحلامها التي شاركت لأجلها في ثورة 25 يناير، ورأت جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تنتمي إليها تسلك طريقاً غير الذي توقعته منها، ما ساهم (برأيها) بقدرٍ في الانقلاب، والجحيم الذي عرفته مصر أقل من عام ونصف عاشتها بعد الانقلاب. ولم يخطر على بال كثيرين استهجنوا انتحار زينب المهدي أنها دقّت ناقوساً وجرساً للخطر منذ خمس سنوات، لم ينتبهوا إليه على النحو الكافي. ولم يكن إنذار المهدي خاصاً بالثوار فحسب، بل بالمصريين عموماً، إذ لم يمضِ عام على مصر، حتى أفاد تقرير لمنظمة الصحة العالمية بأن مصر في 2016 أصبحت الدولة العربية الأولى في عدد المنتحرين، وقد صاروا 3799. وبذلك تفوقت في هذا الأمر على الدول العربية التي تشهد نزاعاتٍ مسلحة وحروباً أهلية، ما نسف المقولة الدارجة لمؤيدي قائد الانقلاب العسكري، عبد الفتاح السيسي، أن سيطرة الجيش على مصر "أحسن ما نبقى مثل سورية والعراق".
يستمر عدد المنتحرين المصريين في الارتفاع، وتستمر ظاهرة عجيبة مصاحبة لانتحار الشباب 
خصوصاً. فمصر التي عرفت الانتحار قبل الانقلاب (ككل البلدان)، لم يعد التخلص من الحياة فيها يحصل في هدوء، أو في غرفة داخلية من شقة أو بيت فقير، بل استمرت في مصر أغرب حالات الانتحار. قبل انتحار زينب المهدي، علّق سائق نفسه مشنوقاً أسفل لوحة إعلانات ضخمة، فيما صار آخرون يلقون بأنفسهم أسفل عجلات مترو الأنفاق الذي شكل، في التسعينيات، نقلة حضارية في عالم النقل والمواصلات، بكّرت بها مصر على دول كثيرة في المنطقة. بعد المترو، ثم عجلات القطارات، ازدادت حوادث إلقاء الشباب أنفسهم في نهر النيل، شريان الحياة الرئيسي لمصر.
وقد وقعت، في 7 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، حالة انتحار أغرب من التي شهدتها لوحة إعلانات على طريق القاهرة الإسماعيلية قبل انتحار المهدي بأسابيع، إذ أقدم الطالب في السنة النهائية في كلية هندسة حلوان، اسمه نادر محمد، على الانتحار من أحد أعلى المواقع في القاهرة (إن لم يكن أعلاها في مصر)؛ ويبلغ ارتفاعه 168 متراً بارتفاع 43 عن أعلى الهرم الأكبر، وهو البرج الذي بناه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بين عامي 1956 و1961، ليكون علامة على عهده.
جاء اختيار نادر برج القاهرة (أو الجزيرة) ليعلن رسالة من المكان البالغ الارتفاع، بأن الحياة في الكنانة ضاقت عنه وعليه، فألزمته وأسلمته للموت. ومَنْ يرَ الفيديو الذي بثّه ناشطون له قبيل انتحاره بثوانٍ، يدرك عمر المأساة التي كانت تعتمل في داخله، بل محاولاته لمنع نفسه من الموت، وعدم استطاعته التمسّك بالحياة، وحتى بعدما علقت ثيابه بحديد أعلى البرج، ومدّ شاب آخر إليه يده محاولاً إنقاذه، ولكن نادراً فضل الانسحاب من الحياة، معلناً رسالة ضمنية للمصريين والعالم، أن الحياة في مصر تقتل الشباب وتُفنيهم.
ومثلما جاء أسلوب وفاة الشاب نادر مريراً، اشترك فيه مع زينب المهدي أيضاً في إرسال
 رسالة قبيل وفاته، تفيد بوشيك انتحاره ويأسه، وعلى الجميع الاهتمام بالمقرّبين لهم قبل فقدهم، كذلك أعلن أحد أستاذة الكلية التي كان يدرس نادر فيها، أن شاباً مجهولاً له (يُعتقد أنه نادر) وجّه إليه رسالةً على أحد مواقع التواصل، قبل أيام من انتحار الأخير، وفيها أن الحياة في مصر صارت عبئاً عليه، وكذلك في الكلية، وبعدها انتشرت مثل هذه الرسائل المخيفة.
وقبل أيام، أعلن مخرج في التلفزيون الحكومي الرسمي، وأحد أعضاء نقابة المهن السينمائية، على أحد مواقع التواصل، أن صديقاً له مخرجاً واعداً يعاني من ضائقة مادية، رفض تكرار تلقي المساعدة المالية، وأنه "لم تعد لديه طاقة لمقاومة الحياة" ويظن أن "الدنيا قاربت الانتهاء لديه"، وهو ما دفع صديقه إلى مناشدة نقابة السينمائيين واتحاد المهن الفنية والقادرين على الدعم النفسي التدخل، مؤكداً تكرار الحالة، وكان من أوائل المستجيبين طبيبة نفسية مختصّة في إعادة التاهيل النفسي للاستمرار على قيد الحياة، ويبدو أنه تخصصٌ يلقى رواجاً الآن بين المصريين، في ظل الانهيار الشامل الذي تشهده حياتهم.
وقال آخر، بشكل خاص، إنه دائم التواصل مع صديق له، مع عدم رد الأخير عليه لأنه أسرّ إليه، في آخر محاورة، بأنه "يُفضلُ أن يقابل وجه الله على الاستمرار في الحياة".
أين هذا كله من كلمات عبد الفتاح السيسي، قبيل الانقلاب العسكري وجملته الأشهر "إن الشعب المصري لم يجد مَنْ يحنو عليه؟". حفظ الله مصر وأعان أهلها على تحريرها من قبضة العسكريين الحاليين الظالمة.