عاد الهلال محاقاً

عاد الهلال محاقاً

03 ديسمبر 2019
+ الخط -
قبل اندلاع ثورتي أكتوبر المجيدتين، المتزامنتين في لبنان والعراق، وبعد بلوغهما نقطة اللا عودة، وتحقيقهما مكاسب غير قابلة للامحاء، ما كان للمرء أن يجازف بالقول إن الهلال الإيراني، المسمّى هلالاً شيعياً، قد عاد إلى طوره الأول محاقاً في نهاية مطافٍ طويل، وإن ما تراءى لنا، قبل أكثر من أربع سنوات، بدراً تاماً، غداة الإعلان الماجن عن سيطرة طهران على العاصمة العربية الرابعة، قد ارتد إلى منزلته السابقة، ودخل في حالة خسوفٍ كلي، أو قل في سيرورة تاريخية، تشي بانكفاء زمن الطائفة الهائجة، لصالح تقدّم عصر المواطنة، وتعد بأفول شعار "تصدير الثورة"، لتحل محله عملية استعادة الدولة.
وما كان لهذا الاستنتاج المبكر أن يبرّر نفسه هكذا، لا إثر الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، ولا حتى عند انفجار بركان الغضب أخيرا في عموم إيران، لولا أن هاتين الثورتين الصادرتين كنسخة منقحة من مخاض الربيع العربي قد وقعتا في البلدين الأكثر إذعاناً لسلطة الولي الفقيه، ورفعتا، إلى جانب الشعارات المطلبية المحقة، راية الانعتاق من قبضة نظام الملالي، ومن تدخلاته الفظّة في الحياة السياسية لبلدين عربيين، أخذا من مدارهما الطبيعي عنوة، بكثير من الدهاء والتدليس والمراوغة، ليدورا معاً في فلك مشروعٍ توسّعي، يروم تحقيق أمجاد إمبراطورية غابرة.
ومع أن رسالة الثورة اللبنانية البيضاء أقل خشونةً من نظيرتها العراقية، وأكثر ليونةً في طلب الخلاص من قبضة الوكيل الإيراني المدجج حتى الأسنان في بلاد الأرز، ربما درءاً لعنفه المجرّب، أو منعاً للاستقواء بالسلاح "المقاوم الممانع" ضد خصوم الداخل، إلا أن الهتاف الكلي الجامع لشعبٍ روّعته الصراعات الأهلية، وضاق ذرعاً بالمتحاربين على أرضه، كان واضحاً في توقه البالغ إلى التحرّر من عهد الفساد والإقطاع السياسي والمحاصصة الطائفية، ومن زعماء المليشيات وأمراء الحرب، أي من كل شخوص الطبقة السياسية الحاكمة، وذلك من خلال رفع الشعار الباذخ "كلّن يعني كلّن".
وكان من الممكن ابتذال رسالة اللبنانيين، وحجبها عن أسماع المرشد الأعلى، بل وسوق شتى الاتهامات ضد الثائرين في المدن والبلدات، العابرين أسوار الطوائف والمذاهب والمناطق، سيما تهمة العمالة للسفارات الأجنبية، لولا أن هذه الثورة الناعمة قد عبرت إلى الحاضنة الشعبية لوكيل إيران القابض على رقبة الدولة اللبنانية بإحكام، ولولا أيضاً أن موجتها العالية طاولت الحصن الحصين في البيئة الشيعية، الأمر الذي أسس ربما للبنان جديد، أو لعله صنع نقطة تحوّل فارقة، مفادها بأن أولوية المواطنة المتساوية باتت تعلو على اعتبارات الطائفة، وأن الدولة المدنية الديمقراطية العادلة أرفع مقاماً من إمارة الزقاق والحارة.
وإذا كان في وسع آيات الله أن يؤوّلوا نداء الثورة اللبنانية كما يحلو لهم، وأن يستخفوا بالأمر كله، فليس في حولهم غضّ البصر عما يحدُث في الجوار، ولا يستطيعون تجاهل هتاف العراقيين المدوّي قرب سفارتهم في بغداد، الرافض وجود ذيول إيران في البلد الذي سبق له أن جرّعهم كأس السم على رؤوس الأشهاد، وإذا كان في آذانهم وقر، وكانوا في حالة إنكار، فقد شاهدوا بكل تأكيد الحرائق في القنصليات، سيما في مدن الجنوب العراقي الذي بدا، حتى الأمس القريب، حديقة خلفية لقاسم سليماني، إن لم نقل مجالاً حيوياً للجمهورية الإسلامية، وأدركوا أنه لا يقدر أي إيراني، اليوم، على الظهور في البصرة، أو زيارة العتبات في النجف وكربلاء.
وعليه، ومن غير استعجال للنتائج، أو مبالغة في رفع درجة التوقعات، يصح القول بثقة، سيما بعد ثورتَي لبنان والعراق العارمتين، إن المشروع التوسعي الإيراني قد أصيب في مقتلٍ لا شفاء منه، وإن حلم الحرس الثوري بإقامة الكريدور الواصل بين طهران وبيروت بات أثراً بعد عين، فقد بدأ المشروع الإيراني على هيئة قمر في طور المحاق، بزغ مبكّراً في سماء لبنان، ثم صار هلالاً مطلاً من آفاق دمشق وبغداد، وبعد ذلك اكتمل بدراً تاماً فوق صنعاء، غير أن هذا المشروع، المفتقر لمقوماته الحقيقية، دخل الآن في طور التآكل التدريجي، كأنه الجزْر بعد مدٍّ طويل، أو قل كقمر دار في مداره السرمدي، تكوّن محاقاً لا يرى بالعين المجرّدة أول الأمر، ثم آل هلالاً بعد حين، فبدراً كاملاً في ليلة الرابع عشر حسب التقويم الهجري، وها قد عاد اليوم كما كان قبل عقدين.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي