عيون أسمهان

عيون أسمهان

19 ديسمبر 2019

(عادل السيوي)

+ الخط -
خمس وسبعون سنة وشهور، وعيون أسمهان الجميلة ما زالت تحت التراب تشرب من فنجان القهوة، وتكيد العشّاق والمحرومين معا، لا استطاع يوسف وهبي أن يحتوي شقاوة عينيها وعظامها الرقيقة وهيمنته على مساحة الكاميرا بعيونه الواسعة والنهمة، ولا استطاعت كلمات بشارة واكيم أن تخطف من عسل عيونها الضحكات من غمزات كلامه. 
خمس وسبعون سنة وعيون أسمهان كما هي، تبرق على شاشة تليفزيون أبيض وأسود في "دشمة النقيب صلاح" بعد مقتل أنور السادات بشهور، وناصر "الأزغل" خفيفا، يدخل الدشمة لطلب ما، ويتسمّر أمام الشاشة وعيون أسمهان ويسأل: "هي العيون دي تحت التراب صحيح؟"، فينفجر النقيب صلاح في الضحك، ويمد يده لناصر بنصف فنجانه من القهوة، فيأخذ ناصر بقية الفنجان في بلعة واحدة، ويتابع عيون أسمهان واقفا، فيقول له النقيب صلاح: "يلا يا عسكري أغسل الفناجين والكنكة"، ويأمر له بـ 72 ساعة إجازة لبلدته أبو قرقاص، كي يبيع عسله على عربته أم بغل، مكافأة لكلامه الحلو في حق عيون أسمهان. يأخذ ناصر تصريح النزول، وقبل أن يخرج يقول لعسكري آخر رمى عليه كلمة ما لم تعجبه: "عليّ الطلاق طول عمري فيكي يا أبو قرقاص ما بعت عسلي غير على عربية ببغل". وكعادة ناصر، لم يعد إلى الكتيبة إلا بعد أسبوع، ويقضي سجن الثلاثة أيام كعادته التي حفظها كـ"طُلبة في المطبخ"، بعد أن يحلق له شعره "العسكري مدّاح".
خمس وسبعون سنة وما زالت عيون أسمهان الجميلة وكأنها في دشمة النقيب صلاح على شاشة التليفزيون الأبيض والأسود وهي تغني "قهوة". خمس وسبعون سنة من عمر الزمان، بعدما نزلت فتاة جميلة من جبل الدروز إلى حي السكاكيني في القاهرة مع أمها وأخوتها. كانت أمام عيون أسمهان الجميلة تخفف القصبجي معها من جملته الموسيقية، حتى صارت طيّعة للحنجرة اللينة المليئة بالحزن والأشجان. صارت القاهرة طيّعة، وجمال الوجه مع الصوت المليح بركة، وبدأت حومة العشّاق، وكل عاشقٍ معه لحن ولغز وحكاية، تنقل الجميلة من بلد إلى بلد، ومن حكاية إلى حكاية ومن حزن إلى حزن، والجميلة ركبت الريح في سنواتٍ تسع، مرّة تدخل حديقة مدحت عاصم الصغيرة على أوائل حدائق القبة بلحن "دخلت مرة الجنينة"، فينتشي الورد وتصفو الصحبة. جملة موسيقية خفيفة، كأنها تحلق في سماوات الأوبرا، وحزن دفين وكأنها صعدت ثانيةً كي تغني في حدائق الدروز بلحن معاصر يخطف الألباب. الأحزان طالت منها كل شيء إلا العيون والحنجرة.
هل لأجل جمال تلك العيون والخوف منها أيضا أصرّ الموسيقار محمد عبد الوهاب أن تغني أسمهان أغنية "محلاها عيشة الفلاح" بصوتها فقط من غير صورتها، واستبدالها بأخرى؟ هل لأن الأغنية اعتبرها أجمل ما ترك، ولا يريد أن يترك خلف ظهره سيدةً جميلةً تغنيها بصورتها الجميلة، فيتم نسيان صوته هو؟ فاختار الأسلم له وللأغنية، ويحتفظ الناس بجمال صوت أسمهان فقط كما شاءوا.
ماتت أسمهان من خمس وسبعين سنة، وركبت أم كلثوم مركب الغناء تماما، وتمخطر صوتُها ثلاثين سنة بعد موت أسمهان، زارعا النيل وأرضه بأطيب الألحان والحكايات، حتى صارت تميمة العرب في السهل والجبل والطمي، من الفلاح إلى العامل إلى الفقيه إلى الأزهري إلى الموظف الصغير، حتى قال بعض الخبثاء إن لأم كلثوم يداً في موت أسمهان... نسي الناس التهم وتمتعوا بصوتين، واحد ناعم كالنسيم قد أتى من جبل الدروز، وآخر خشن في اللوعة، وطريّ في الحنان كطمي النيل يتحمّل الأحزان.
ظلت دماء أسمهان مطيّة للمجالس، حتى جاء ثابت الخرباوي، ووضعها مرة واحدة بضربة فأس غشيم على أكتاف الإخوان المسلمين، وقد كان أولى بهم أن يقتلوا أم كلثوم التي بدأت قبلها بـ 15 سنة، وواصلت بعدها لـ 30 سنة، وملكت القلوب منهم ومن دعوتهم، ولكنه العبط حينما يختار صاحبه. ولكنه عبط يظهر بلا سبب، وينتهي من غير سبب أيضا، كذلك الأمر الذي جعل العسكري ناصر يدخل فجأة دشمة النقيب صلاح، ويسأل عن أسمهان: "مين دي؟"، فيرد عليه عسكري: "دي مطربة ماتت يا عبيط من زمان"، فيتعجب ناصر ويقول: "والتراب يقدر ياكل العينين دي؟"، فيضحك النقيب صلاح. ابن بلدي الجميل الذي لم يعمّر في الجيش، بعدما أخذ رتبة رائد، وذهب بعدها إلى ليبيا بصحبة زوجته الصيدلانية، ولم يعد.