الإبداع دليل اضطراب عقليّ؟

الإبداع دليل اضطراب عقليّ؟

17 ديسمبر 2019

(فاتح المدرس)

+ الخط -
في كتابه "أرض الميعاد"، يسأل الكاتب الفرنسيّ أندريه موروا: "إذاً، برأيك حضرة الطبيب، كلّ الروائيين، نساء ورجالا، يعانون من اضطرابات عصبية؟"، فيجيبه الأخير: "ربما كانوا كلهم مضطربين عصبيا لو لم يكونوا روائيين، فالاضطراب العصبي يصنع الفنان، والفنّ يشفي الاضطراب العصبي"... قبله بكثير، حدس الفيلسوف أرسطو، في نصّه المسمّى "الرجل العبقري والميلانخوليا"، بصلةٍ ما بين الإبداع والجنون، وبإصابة المبدعين الكبار بمرض الكآبة والحزن، متسائلا: "لماذا كان كل رجال الماضي العظماء، في الفلسفة والسياسة والشعر أو الفنون، مصابين بالكآبة بشكل جليّ؟".
في النظرة الحديثة إلى الأمراض النفسية وتقلّبات المزاج، يرى الأطباء النفسيون وجود صلة أكيدة ما بين الشخصية والمزاج، بما هما المحوران المعبّران عن تعقيد النفس البشرية، فإذا كان التاريخ الذاتي هو ما يؤثر كبير التأثير في تكوين الشخصية القابلة للعلاج والتحليل النفسي، فإن اضطرابات المزاج وتقلّباته تتصل، بشكل أكبر وأعمق، بعملية الإبداع والخلق. إن التبدّلات والاضطرابات الثنائية القطبية، على سبيل المثال، أي المراوحة بين حماسٍ أقصى وإحباطٍ أقصى، هي من بين الحالات المرضية الملازمة لفنانين كبار، سواء كانوا أدباء أو فلاسفة أو موسيقيين أو رسّامين أو مخترعين، من أمثال شومان، رامبو، نيتشه، روسو، ميكالانج، غوته، فان غوغ، فلوبير، بلزاك، همينغواي، موزارت، إلخ. وتكفي قراءة سير هؤلاء وسواهم للتحقّق من صدق حدس أرسطو، نظرا إلى ما كانوا يعانونه من مشكلات نفسية واضطرابات مزاجية.
هكذا، وبناء للقراءة النفسية والعلمية الحديثة "طاقة الخلق قريبة جدا من الميلانخوليا التي هي شقيقة الانهيار العصبي، ابنة السلوكات الغريبة وقريبة الجنون حتى، عندما لا يستطيع العمل الإبداعي احتواء كل المؤثرات" (من كتاب "العبقرية والجنون"، تأليف فيليب برونو). هذا ويشير برونو إلى توزيعٍ غير متكافئ للمزاج العبقري، بحسب نوعية الفنّ الممارَس، ففنون الكلام كالشعر والأدب لصيقة أكثر بالجنون والاضطرابات العقلية والنفسية والانهيار العصبي، من الفنون التشكيلية والموسيقية، حيث نرى، في الحالة الأولى، كتّابا يتّخذون أسماء مستعارة كأنهم ينفصلون عن ذواتهم، في حين قلما وجدنا رسّاما أو موسيقيا فعل ذلك. "فهل يكون الأدب هو بمثابة المساس بثمرة محرّمة، أم أن العين والأذن تحميان من الجنون"؟
في ما مضى، كان يُرى إلى الإلهام على أنه حالة من المسّ. لكن اليوم، وبعد نشر دراساتٍ وبحوثٍ لا تُحصى عن وجود علاقةٍ أكيدةٍ ما بين الإبداع والمرض النفسي والعصبي، يتّضح أن ما رآه الأقدمون لم يكن خطأ بالكامل، فالعديد من مظاهر المرض وأعراضه قد تتشابه وحالةَ الوحي الإبداعي: الحماس المفرط، ثم الشعور بالضيق، القلق، الازدواج الداخلي، العزلة والسلوك غير الاجتماعي، وهي كلها تتماهى مع عوارض المرض العقلي، وإنْ بقي أشدّها غرابةً هو الإلهام الذي لا ندري من أين يأتي، كيف يلتمع كالبرق ويشرخ الوعي، بحيث يشعر المبدعُ بأنه ليس هو صاحب الفكرة، وإنما متلقّيها من خارجه. أجل، لحظة الإلهام تهزّ صاحبَها، تخيفه، ترفعه عاليا، قبل أن تعيده منهكا إلى الأرض.
كان سقراط يقول إنه سمع صوت "شيطانه"، في حين تحدّث باسكال عن هذيانه البصري. من يدرسون هؤلاء، بعين علمية اليوم، يتحدثون عن إصابتهما بانفصام شخصيةٍ أو باضطراب عقلي. هذا لا يعني أن على كل مبدعٍ أن يكون مريضا، غير أن عدد المبدعين الكبار الذين عانوا من أمراضٍ نفسية وعصبية كبير إلى درجةٍ لا تقبل الدحض أو الإهمال. لقد لوحظ أن المبدعين العباقرة قلّما عاشوا سعداء، أو قلما شعروا بالرضى وبالاكتفاء، أن بعضهم عانى من اضطرابٍ في هويته الجنسية، أو من كبتٍ جعله يركّز كامل طاقته على إنتاجه، في حين قاسى آخرون من شيزوفرينيا، أمثال هولدرين، غوغول، تريندبرغ، نيوتن، ألكسندر دوما،.. إلخ، فهل يعني ذلك أن إبداعهم كان مشروطا بمرضهم وفترات هذيانهم؟ ليس أصعب من الإجابة على سؤالٍ كهذا، أو حسم الأمور لصالح هذا الاتجاه أو ذاك.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"