لبنان .. ساحة مفتوحة

لبنان .. ساحة مفتوحة

10 نوفمبر 2019
+ الخط -
يبدو اللبنانيون مصرّين على التظاهر والبقاء فترة مفتوحة خارج منازلهم، حتى يحدث تحرّك جوهري باتجاه تغيير ما، وقد ظهر الإصرار بعد أن غير المتظاهرون تكتيكاتهم للاحتفاظ بالشوارع، فبعد أن فتح الجيش الطرقات الرئيسة والحيوية التي قطعها المتظاهرون بحواجزهم، تحوّلوا نحو التجمّع حول المباني الرسمية والحكومية، كالوزارات والإدارات، متّبعين أساليب الاحتجاج المعهودة، من دون أن تتنازل الشعارات المرفوعة عن التغيير الكلي.. استمع المتظاهرون إلى من تناوب على المنابر الخطابية، كحسن نصر الله وميشيل عون، ومن قبلهما سعد الحريري، ولكن خطابات أولئك لم تنجح في تهدئتهم أو إقناعهم بالتراجع أو التخفيف من حدّة وجودهم في الشارع. ولم تأتِ استقالة الحريري مقنعةً بما يكفي للانسحاب، فالشارع يدرك أن المشكلة عميقة وحقيقية، وخطة الحكومة التقشفية التي أُعلن عنها قبيل اندلاع المظاهرات أظهرت مدى استحكام الأزمة، وقد تشكل لدى الشارع يقينٌ بأن هذه الطبقة من الساسة غير قادرة على إنتاج حلٍّ مجدٍ، في وقت قريب، خصوصا وقد اختبر هذا الشارع الطبقة نفسها وقتا طويلا، واختبر قبلها الجيل الأول الذي نقل كل موروثاته السياسية، بما فيها مشكلاته المستعصية، إلى الجيل الحالي من السياسيين. 
لبنان ساحة المنازلات التي شهدت حروباً بالوكالة عن سورية والسعودية وإيران والولايات المتحدة، وحتى إسرائيل، وهو ما زال يثير شهية المتحاربين، ولكن كل اللاعبين في وضع مترقب تحسباً للخطوة التالية، باعتبار أن هناك عاملاً مهماً دخل معادلة التغيير، هو الجمهور اللبناني برمته، فقد أحصي أكثر من مليون شخص شاركوا في التظاهرات، يشكلون حوالي ربع سكان لبنان، ولكن الأمر لن يطول كثيراً، فالحالة اللبنانية المرتبطة بقوة بالوضع الطائفي قابلة للتغير بسهولة، والمناخ العام في المنطقة مقلق، وقد ينذر باتجاهٍ نحو الانحدار، فالحرب في سورية لم تنته، ومشاركة حزب الله فيها كانت مؤثرة، وتركيبته المعروفة موجودة بثقل كامل على الساحة اللبنانية، وقد حاول مناصروه التأثير على الشارع بتدخل عنيف ضد المتظاهرين، شاهدنا صورا مؤسفة له، كما أن التوتر في الخليج يضفي ظلالاً طائفية على لبنان، والوجود الإيراني قوي، ومتمثل بحزب الله، ولكن التحول إلى التكتل الطائفي ليس هو السيناريو الوحيد، بل هناك سيناريوهات أخرى أكثر ترجيحاً.
أحدها العودة إلى نقطة الانطلاق مع تغييرات طفيفة على شكل هدايا اقتصادية، يمكن أن تهدئ الشارع الذي أثارته الأوضاع الاقتصادية السيئة في المقام الأول، يقوّي احتمال هذا السيناريو إصرار حزب الله والتيار العوني على الاستمرار في القبض على البلاد، وهذان تياران يملكان أكثريةً نيابية، ويمكن أن يحرّك كل منهما شارعاً مضاداًّ يخلق بلبلة وتشويشاً يحرف مسار الجمع نحو انعطافاتٍ حادّة غير محمودة العواقب. وقد لمّح التيار العوني إلى هذا الخيار بتسيير تجمعاته لإظهار دعمه الرئيس، وصهره وزير الخارجية جبران باسيل الذي نال النصيب الأوفر من الشتائم والاحتجاجات.. وما قد يقوّي هذا التوجه، يعني الإبقاء على الوضع الحالي مع تحسين اقتصادي ظاهري، هو موافقة سعد الحريري على تشكيل حكومة مختلطة (سياسية وتكنوقراطية) بدعم سعودي، وقد يساهم السعوديون ببضع ملياراتٍ تدعم الاقتصاد، ليضمنوا هدوءاً في الشارع، وإنْ مؤقتا، والسعودية ليست بحاجة إلى جبهة مواجهةٍ جديدة تستنزف قواها المستنفرة أصلاً في مناطق أخرى كاليمن، وهناك استحقاقاتٌ اقتصاديةٌ خطيرة تواجهها مثل خصخصة شركة أرامكو التي أصبحت حقيقة واقعة.. قد يقوّي توجه التهدئة في لبنان فشلُ الشوارع في إنتاج قيادة ذات "كاريزما" قادرة على تلخيص مطالباتها على شكل كتلةٍ سياسيةٍ واضحة التوجه ومحدّدة الخطاب، تحل بديلاً للواجهات السياسية الحالية، ومع أن التحرّك لا يزال محافظاً على سلميته وخفة ظله وإصراره، إلا أن ذلك لا يكفي لإجبار طبقة سياسية، لا وجود لغيرها، على ترك مكانها للفراغ.