انحسار إيران في المنطقة

انحسار إيران في المنطقة

01 ديسمبر 2019
+ الخط -
استطاعت إيران أن تبني نفوذاً مؤثراً في الإقليم خلال العقود التي أعقبت حرب الخليج الأولى، فقد انتهت تلك الحرب إلى حالةٍ من التعادل، واستطاع كل طرفٍ من أطرافها أن يحوّلها إلى انتصار له، يقوّي به موقفه الداخلي. وكان متوقعا أن تستمر حالة عدم الثقة والتوتر الحدودي بين البلدين اللذين خاضا الحرب (العراق وإيران)، وهما يسيطران على كمياتٍ كبيرةٍ من المخزونات البترولية، وكلا البلدين يتبنّى سياسةً عابرة للحدود، يرغب من خلالها بالسيطرة على ما يحيط به، ناهيك عن الشعارات العريضة المرفوعة ضد إسرائيل.. ترك صدام حسين الهدف المباشر، وهو الحرب ضد إسرائيل، وفضَّل الاتجاه جنوباً صوب الكويت التي دخلتها قواته حين لم يمضِ على وقف إطلاق النار مع إيران سوى عامين.. الوضع السياسي المضطرب حينها جعل من صدّام بؤرةً للاهتمام الغربي والأميركي، والتوجه ضده، ما أعطى لإيران الفرصة للتحرّك الهادئ والمدروس، والتغلغل بتؤدة في بنية المنطقة، فأتت حروب أميركا في الشرق الأوسط لصالح إيران سواء في أفغانستان أو العراق.. شعرت إيران بحريةٍ أكبر في الإقليم، وهي الراغبة بتسويق نظريتها المذهبية، بعد أن تحررت من عبء وجود دولة كبيرة تشكل تهديداً لأهدافها، وهي العراق. ونجحت إيران في بناء أصابع سيطرة قوية لها في ردهات الحكم العليا في الإقليم، بعد إطاحة الأميركان حكم صدام، ثم وجدت لها أفقاً جديداً، حين انطلق الربيع العربي، وتحول إلى مزيج فوضوي، تسللت خلاله مليشياتها بشكل واضح إلى سورية واليمن، وقد كان كل من لبنان والعراق مرتعاً غنياً لها منذ سنين..
اتبعت السياسة الأميركية خطواتٍ مهادنةٍ مع السلوك الإيراني، على الرغم من صوتها العالي ضدها، لكن النجاح الكبير لإيران كان توقيع الاتفاق النووي مع أميركا أيام الرئيس باراك أوباما الذي أفسح لها، بشكل غير مباشر، الذهاب بعيداً، والتوغل في دول الجوار، وتوسيع مداها الاستراتيجي الذي تعتقد أنه يمتد إلى ما وراء المحيط الأطلسي. وعلى الرغم من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليها في عهد دونالد ترامب، ووصفت بالقصوى، إلا أن تأثير العقوبات لم يكن بالقوة التي قد تثمر في تغيير محسوس في السياسة الإيرانية.
ياتي الرد على ذلك الآن من الشوارع العربية التي عانت من سيطرةٍ إيرانيةٍ أنتجت مزيداً من التضييق على الحريات، وكثيراً من الغم الاقتصادي.. تحرّكت الجماهير في العراق، وصوتها واضح ومباشر ضد السيطرة الإيرانية بتوجيه الهتاف إلى رموز وجودها في هذا البلد، ولم يوفر الغاضبون في الشوارع البعثات الدبلوماسية التي ترفع أعلام إيران، فأُحرقت، على ما تنقل الأنباء، مبانٍ تابعة لإيران في كربلاء والنجف، ورُفع فوقها العلم العراقي.. أما في لبنان فلم يختلف المشهد كثيراً، على الرغم من أن الهتاف لم يكن بذلك الوضوح، بل حمل أولوية اقتصادية، ولكن حزب الله وحلفاءه استشعروا الضغط الموجه ضدهم، فأرسلوا "قبضاياتهم" لوقف الزحف في الشوارع، وضرب المتظاهرين أو إرهابهم، وحثَّ أمين عام الحزب، حسن نصر الله، المتظاهرين على الرجوع، قائلاً إن لا فائدة تُرجى من طول بقائهم في الشوارع.
على الرغم من الهتافات في لبنان والعراق، إلا أن السياسية العالمية لم تتجاوز لهجة التهديد لإيران، ثم التراجع عن هذا التهديد، أو ابتكار موجةٍ جديدةٍ من العقوبات عليها، تشبه التي أنتجت تحركاتٍ احتجاجية في الشارع الإيراني، سرعان ما سيطرت عليها قوات الأمن، ولكن الشوارع في لبنان والعراق تبدو أكثر حسماً في مواجهة إيران، بشكلٍ يجعل المواجهات تزداد عنفاً، وما تستطيع أن تفعله إيران في مدنها قد لا يكون متاحاً لها في الخارج، والمراهنة الآن على صلابة المتظاهر العربي، فقوة تحمّله فقط يمكن أن تحدد إلى أي مدى ستستمر سيطرة إيران التي عجزت أميركا عن تحديدها.