خافيير مارياس.. راوي الخديعة

خافيير مارياس.. راوي الخديعة

26 نوفمبر 2019

مارياس خلال عرض كتاب "جزيرة بيرتا" في مدريد (5/9/2017/Getty)

+ الخط -
مولود في مدريد عام 1951، من والدٍ تعرّض لخيانة صديق له فاضطر إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية هربا من اضطهاد الديكتاتور الإسباني فرنكو وأتباعه. إنه الروائي الإسباني خافيير مارياس، الذي تُرجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة، هو الذي باشر حياتَه المهنية عاملا في السينما. صدرت له أعمالٌ روائية رفعته إلى مصاف كبار الكتّاب الإسبان المعروفين عالميا، في مقدمتها "أوكسفورد" وحازت جائزة مدينة برشلونة، و"قلب أبيض جدا" ونالت جائزة النقد والجائزة الدولية Impac في دبلن، و"غدا في المعركة، فكّري بي" وفازت بجائزة فيمينا الفرنسية للأدب الأجنبي،.. إلخ. وبات ممن تتمّ المراهنة على أسمائهم كل عام، ضمن المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب.
قد تكون "حيوات مكتوبة" (1992) أكثر الروايات إفصاحا عما يتيح الولوج إلى عوالم مارياس الخاصة، حيث نراه يعمد إلى تناول كتّابٍ من الماضي يقوم بتحويلهم إلى شخصيات روائية. هذا وقد تكون معظم أعماله وكأنها مبنية تبعا لرسم بياني موحّد: شيء من النزعة المأسوية الإسبانية تلوح في خلفيتها الحربُ الأهلية، التاريخ، الشكّ والخيانة، ممزوجة بطريقة ساحرة بشيء من الانضباط والبرودة في معالجة المصائر الفردية والأسرار والحب والزواج. تلك هي حال روايته الأخيرة "مهما صعبت البداية" التي تصف لنا مدريد كأنها في عيد، هذا في الظاهر فقط.
تبدأ الرواية مع شخصية الشاب خوان دي فيري (23 عاما) الذي يعمل لأول مرة في حياته، سكرتيرا خاصا لدى المخرج وكاتب السيناريو المعروف إدواردو موريال. بعد ذلك، سيتعرّف خوان إلى زوجة إدواردو الجميلة غريبة السلوك، بياتريز، ومن ثم إلى الأصدقاء المقربين لهذا الأخير الذي فتح أمامه من دون دراية أو عن غير عمد، باباً يطلّ على حياته الحميمة وعلى ذكرياته. الشاب خوان المعجب جدا والمسحور كلية بشخصية المخرج، سيكتشف تدريجيا أن هذا الديكور البرّاق، المكوّن من حياة زوجية ناجحة وحياة اجتماعية صاخبة، يخفي في كواليسه الخلفية كراهية كبيرة يكنّها الرجل لزوجته. ما هو السبب وأين تراها تختفي بياتريز تلك في أثناء مشاويرها الطويلة في المدينة دونما وجهة محددة؟ ومن هو الدكتور فان فيختان، صديق العائلة القديم الذي يروى عنه الكثير، والشيء وضده؟
على مدى أكثر من 600 صفحة، سوف يلعب الراوي دور محقّق يحاول كشف الحقائق المستترة، أو بالأحرى دور جاسوسٍ غصبا عنه، على الرغم من احتقاره وكرهه أداءه دورا كهذا: "كان المكان ينضح برائحة اليمين المتطرّف، الناشط والعازم بشكل استثنائي في تلك السنوات؛ لقد كان في السلطة لأكثر من سبعة وثلاثين عاما، وما عاد فيها إلا منذ خمس سنوات، لقد كنا نعرفه جيدا جدا، ذاك النتن...". والراوي الجاسوس، إذا صح التعبير، سينجح في إثارة حشرية القارئ، إذ لن يني الأخير يتساءل معه عما تراه يكون قد حدث بين المخرج وزوجته، لكي يتخاصما ويتكارها بهذه الحدّة، فيما هما يتابعان العيش تحت السقف نفسه، ولا يتمكنان من الافتراق عن بعضهما ولو لثوانٍ (كان الطلاق ممنوعا في إسبانيا في 1980). أيضا، ما هو ذلك السرّ الكبير والمخيف الذي يغطي صديقَ الزوجين، طبيب الأطفال النفسي، الفرنكي والانتهازي، الذي يبدو مستخفيا أكثر منه تائبا.
من خلال قدرته الهائلة على التحكم في البصري والسمعي في آن، يبرع خافيير مارياس في وصف مشاهد مذهلة تتتالى فيها الملاحقات، الاعترافات، اللقاءات الحميمة، البوح بالأسرار، بحيث يصبح الإطار الخاص كما العام، الحميم كما الجماعي، الذي تلى مرحلة فرنكو، هو الموضوع المركزي، أكثر منه التحقيق الذي يجريه الشاب لسبر أغوار هذه العلاقة الزوجية غير الاعتيادية. وفي معظم روايات مارياس، تتخذ عباراتٌ، مثل الخيانة والغدر والريبة، معاني محورية يقوم عليها السردُ ويتماهى معها، ولا ريب أن المنفى الإلزامي الذي أجبر عليه أبوه، وقد تعرّض لخيانة أحد أصدقائه، هو وراء الصدمة التي دفعته إلى الكتابة وإلى الرجوع دوما إلى مواضيعه الرئيسة: استحالة منح الثقة وتعاظم الريبة (كثرةٌ من الحيوات ترتكز إلى الغش أو إلى الخطأ)، اللاإحساس أمام العار والذنب، الألغاز التي لا تحلّ بقدر ما تنفلش وتتشظى، وأخيرا الانتحار.
على هذه الموضوعات، يُلقى السردُ كغلالة متماوجة تتخذ أشكالا متغايرة كلما تحرّكت الشخصيات أو تقدمت الأحداث، حتى ليشعر القارئ أنه مدعوٌ للتقدّم فوق بقاع من الرمال المتحرّكة. فالشخصيات تتردّد في قول ما لديها، وإن فعلت، فلكي تتراجع غارقةً في الصمت من جديد. لذا ترى القارئَ متماهياً مع الراوي الذي يحاول انتزاع نتف اعترافٍ من هنا، ونصف حقائق من هناك. "الحقيقة أمرٌ نضعه بين قوسين خلال الحياة". ومما يزيد الرمالَ المتحرّكة خطورةً على القارئ، جملُ الاستطراد التي تصنع أسلوب مارياس وتثريه، حتى ليشعر القارئ في بعض الأحيان أنها تقتحم عليه موضوعه. بيد أنها، ما أن تختفي أو تندر، حتى يجري لاهثا مطالبا بمزيد منها.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"