باراديغم عربي جديد: الحرية ضد التحرير؟

باراديغم عربي جديد: الحرية ضد التحرير؟

26 نوفمبر 2019
+ الخط -
تتوالى الأحداث في الشرق الأوسط، والدائرة العربية الإسلامية، كما لو أن الشطر الثاني من عولمة الديمقراطية، بعد الأول الذي أعقب سقوط جدار برلين، لا يُطبِّق سوى برنامج إرادة القوة، كما عرّفها الألماني فريديريك نيتشه، في تفكيك الدول والتراب، والعمل على إنهاء المطالب التحررية!
لنخترْ الزاوية الفلسطينية في التحرير، وزاوية الدول العربية في الحرية. ولنتأمل، على ضوئهما، الأحداث، ومنها أساسا القرارات الأميركية، على َضوء التزام العالم، وأولويات الشرق الأوسط الجديدة..
نبدأ من قرارات الولايات المتحدة، في ما يتعلق بالمستوطنات، فقد أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في وقت سابق من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، تخلي واشنطن عن موقفها أن المستوطنات "تخالف القانون الدولي"، وهو ما اعتبر تراجعاً عن موقف اتخذه الرئيس الأميركي جيمي كارتر عام 1978.
تأسفت مواقف العالم، ومنها مواقف العرب والمسلمين، تأسفت على قرار يهدد السلام... العالم يقوم بتمرين أخلاقي مكرور، ويستعين بعملية سلام لم تعد موجودة، لأن لا شيء يدل على أن هذا السلام بالفعل موجود على الأجندة، سواء الإقليمية أو الدولية، ولو من باب الاحتمال متوسط المدى. وهو سلام أيضا تشظى، ولم يعد مطلوبا في فلسطين الجريحة وحدها، بل يوجد مطلبه في كل الأراضي المجروحة في سورية وفي اليمن، وفي غيرهما.
خطورة القرار الجديد لترامب أنه ينزع من الدولة الفلسطينية ترابها، باعتبار أن جزءا من الدولة فيه تبني إسرائيل المستوطنات، وهو قرار ينهي أوهام محادثات السلام منذ 2014، كما يعطي مذاقا أوليا عن "صفقة القرن" المبشر بها. ويزداد هذا المذاق مرارة عندما نعود إلى 
الاعتراف بالقدس عاصمة دولة إسرائيل، بعد أن يكون الأنبياء قد غادروها ودخلتها الأحزاب الأرثوذكسية، نزلت التلمود من جديد على زعيم حزب شاس، ففي 6 ديسمبر/ كانون الأول 2017، اعترفت إدارة الرئيس دونالد ترامب رسميًّا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وشرعت لوزارة الخارجية الأميركية بالبدء بعملية بناء سفارة أميركية جديدة في القدس.. وغضب العالم، والحل يقال، وبعض الدول غضبت، لكن الغضب لم يمنعها من حضور الافتتاح!
تنزع العاصمة، ثم ينزع جزء من تراب الدولة، ولا تبقى سوى المدافع.. يمكن أن نطل على وضع العجز الذي يستمرئه العالم أمام تزايد القتل في فلسطين، ومحاربة حقها في الاعتراف بها دولة مستقلة، وأمام هذه "الأمنيزيا"، أو فقدان الذاكرة التي أصابت عالم الأخلاق والقيم الأممية.
وبالنظر إلى تزامن ذلك كله مع التحرّكات التاريخية القوية للمنطقة، أن خروج أكثر شعوب المنطقة إلى الشارع بحثا عن حريتها، كان غطاء غير مسبوق للدول في أن تنهي قضية فلسطينية استعصت على الهضم، كما لو أن الشارع الذي يقود إلى حرية الشعوب صار مبرّرا معقولا لكي يخرج شعب فلسطين، وهو الشعب الأكثر إصرارا على الحرية، من التاريخ الحاضر للحق في الدولة.
في البداية، استساغ جزء من النخبة، ثم من الجماهير، "تأجيل" قضية أولوية مصير الدولة الفلسطينية، إلى حين حسم قضية الديمقراطيات في الدول العربية، سيما منها المعنية بالملف بدرجة أكبر، من قبيل سورية ومصر واليمن وليبيا، والتي كانت لها علاقة جد وطيدة حتى بالتوازنات داخل منظمة التحرير والفصائل الفسطينية.
كان الاعتقاد راسخا ربما أن حرية الشعوب دعامة قوية لتحرير الدولة. والذي حدث أنه كان من الآثار المعتمة قليلا تواري الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومن خلفه الرافعة العربية الإسلامية قرابة عقد، من 2011 – 2019، وراء مطالب الشعوب في الديمقراطية. ولم يحسم هذا الصراع بالشكل الذي يجعل الديمقراطية في البلدان المعنية سندا قويا للتحرير، حتى انضاف إليه تمايز (أو تضاد) جديد، هيمن على الصراع في المنطقة، هو الصراع السني الشيعي، والذي لم يشكل فقط جدارا ثانيا، يضاف إلى جدار الصراع من أجل الحرية، بل خلخل الأولويات والرهانات والتقاطبات، وأدخل الجيو- اسراتيجية عنصرا، كان سابقا لفائدة
 فلسطينيينا، يوسع هامش المناوره لديهم، ليصبح عنصرا يقلب المعادلات كلها، ويسبق ما عداه، ويحرّك صراعات وحروبا أخرى، حلت محل الصراعات الديمقراطية السلمية (اليمن ومصر وسورية).
يكفي أن نتابع درجة اهتمام العالم بما يدور في الشوارع العربية، سواء التي ترافع من أجل المواطنة معيارا للحكم على السياسات (مواطن فوق الطوائف ضد الفساد وشظف العيش كما في لبنان أو العراق)، أو التي ترافع من أجل انتقال ديمقراطي نحو دولة مدنية ديمقراطية مبنية على مواطنة كاملة كما في الجزائر. وهذه القضايا مركزية في الراهن الإعلامي والسياسي، لكي نقيس درجات الابتعاد عن مركزية القضية الفلسطينية، على الرغم مما يحاك يوميا.
ليس المطلوب إصدار حكم قيمة علي مجريات الواقع الحالي، ولا الاحتماء باستعلاء فكري، أو مبدئي، إنما المطلوب تأمل هذا التحول في "إبدالات" الواقع الجديد، هذا الـ"باراديغم" متراكب، تكون فيه الدول شرق - غرب أوسطية أمام تقابلات غير مسبوقة، وسلالم قيم تجعل من الحرية مضادا للتحرير، حتى بالنسبة لدول غير فلسطين، ويجعل من بناء الدولة ليس مرادفا بالضرورة لبناء كيان.

دلالات

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.