حجاب صابرين وهذا الفصام

حجاب صابرين وهذا الفصام

22 نوفمبر 2019
+ الخط -
تأخذ النقاشات المتعلقة بالحجاب على "السوشال ميديا" منحى مختلفا عن باقي النقاشات العامة، إذ تطغى لغة الشتائم والتكفير على لغة العقل والنقاش الموضوعي، ويظهر فيها عمق التجذّر في الاختلافات المجتمعية بين المتدينين والوسطيين واللادينيين، وتظهر أيضا "الصوابية" التي يعتقد المؤمنون أنهم يملكونها وحدهم، بحيث يظهرون الآخرين المختلفين كما لو أنهم جهلة وعلى ضلالة، ولا يتركون في النقاش أية مساحة للتفاهم، حتى للمؤمنين الذين يقولون إن الحجاب حرية شخصية، سواء في ارتدائه أو في خلعه، سوف يعتبرون رأيا كهذا محاباة ودجلا، وصاحبه يدخل في المؤامرة ضد الإسلام، أو أقله هو مخادع، ويسعى إلى إرضاء الجميع، إذ لا حرية شخصية في اللباس، فالحجاب فرض ونقض الفرائض هو كفر. من هنا يمكن للنقاش أن يبدأ بالنسبة لهؤلاء، وإلا فالتكفير والشتائم، هي اللغة الوحيدة الناجعة، وفي العموم، باتت هذه اللغة هي السائدة منذ عام 2011، في كل النقاشات العربية، بعد أن بدأت الاصطفافات السياسية والمذهبية والقومية التي ظهرت مع الربيع العربي، وكشفت ضمور الهوية الوطنية لصالح الهويات الصغيرة التي سمّاها أمين معلوف "الهويات القاتلة" في رواية عن الحرب الأهلية اللبنانية، لكنها صالحة لحال العرب بعد 2011. 
وسرعان ما تظهر حالة الفصام لدى هولاء، حين تعلن دولة أوروبية ما عن عزمها إصدار قوانين تمنع النقاب، أو اللباس الذي يدل على هوية دينية في المدارس، حيث يبادر الأشخاص أنفسهم الذين يرفضون القول إن ارتداء الحجاب من عدمه حرية شخصية، بحجة أن لا حرية في الفرائض، إلى اتهام الدول الأوروبية بالاعتداء على الحريات الشخصية للأفراد، بحيث يظهر أن الرغبة في ارتداء الحجاب حرية شخصية، ولا يحق لأحد المساس بالحريات الشخصية، وكأنهم حراس حقيقيون لهذه الحريات، في وقتٍ لا يتورّعون عن هتك عرض وتاريخ أية سيدة أو فتاة تقرر خلع الحجاب، وكأنها ارتكبت الإثم العظيم الذي لا يقبل الغفران، أو كأنها أهانت شرف المسلمين جميعا، حيث تظهر النزعة القبلية الوصائية والذكورية ضدها، حماية لشرف القبيلة وعرضها وسمعتها.
قبل أيام، نشرت الممثلة المصرية صابرين صور لها بعد أن خلعت الحجاب ولونت شعرها بلون ذهبي. ومن لحظتها وتمتلئ مواقع "السوشال ميديا" بصورها مرفقة بشتائم وتكفير، ما اضطر الممثلة الغائبة إلى الظهور في فيديو تبكي من فرط ما تعرّضت له.. أين الحرية الشخصية التي يظهرون مدافعين عنها حين يتعلق الأمر بدولة أوروبية تقيد الحجاب لديها؟ وهل، في الأصل، كان النشاط الذي ظهر في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي لنشر الفكر الديني المتشدد في بلادنا، واستهداف شريحة الممثلات تحديدا، لما لها من تأثير كبير على شرائح نسائية مجتمعية كبيرة، وزجّ أرقام مالية مهولة لصالح اعتزالهن وتحجبهن وإعلانهن التوبة عن التمثيل، واعتبار ما فعلنه ذنبا عظيما بوصف التمثيل "حراما"، وتحول بعضهن إلى داعياتٍ يستقطبن نساء الطبقات الوسطى تحديدا، باعتبار هذه الطبقة هي الحاملة للوعي ولأي حركة تغيير في المجتمع. هل كان ذلك كله عفويا، وينطلق من الحرية الشخصية المحضة للممثلة أو لغيرها من اللواتي تأثرن بحركة التشدّد الديني تلك؟!
ليست صابرين الوحيدة التي خلعت الحجاب، سبقتها خلال السنوات الثلاث الماضية أكثر من عشر ممثلات تائبات، وفعلت مثلهن ربما آلاف الفتيات والنساء اللاتي لا يعرفهن أحد، فمع طفرة التطرف الإسلامي التي انتشرت في دول الربيع العربي. ومع انتشار اليمين العنصري المتطرّف في أوروبا، بدأت حالة معاكسة تظهر، قليلا ما تثير انتباه أحد، فإذا كان الأوروبيون يرفضون تطرّف اليمين وعنصريته عبر المظاهرات المضادة، أو عبر مزيد من الترحيب والاهتمام باللاجئين (المسلمين والملونين)، فإن الرد على التطرّف في بلادنا يظهر بالتخفف من مظاهر، والحجاب هو أول هذه المظاهر باعتباره أكثر علانية، ومع كل إعلان عن خلع الحجاب على "السوشال ميديا"، يظهر العنف اللفظي في أقصى حالاته لدى المحتجين، كما لو كان هؤلاء يتحصّنون بالعنف اللفظي حماية لما يعتقدونه صحيحا وصائبا، أو كما لو أن هذا العنف والقطعية في النقاش تمنع الراغبين في في التراجع عن تشددهم. وفي كل حال، ليس هذا العنف سوى حالة من حالات تراجع المد الإسلامي المتشدّد الذي تركت له أنظمة الاستبداد العربي الحبل على الغارب في سعيها للتحالف مع الإسلاميين، في الوقت الذي زجت بسجونها معتنقي اليسار وجرفت المجتمعات من مدنيتها، لصالح المؤسسة الدينية التي تحافظ على تغييب الوعي الفكري والسياسي؟ على أن التغيير الذي بدأ حراكا سياسيا واقتصاديا لن يتوقف حتى يغير مجتمعاتنا كلها مهما طال الزمن.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.