وحيد الطويلة واللعب داخل الكتابة

وحيد الطويلة واللعب داخل الكتابة

21 نوفمبر 2019
+ الخط -
في رواية وحيد الطويلة "جنازة جديدة لعماد حمدي" يقفز الراوي (ضابط المباحث) من مشهد إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، وكأنه يبحث عن قرينةٍ دالّةٍ لجُرم ما وقع، يحاول جاهدا أن يمسك أول الخيط، أو لماذا اتجه إلى ذلك المكان، ولماذا صار ضابطا من الأصل، ولماذا انقسامه الدائم ما بين واجب الوظيفة التي أُجبر عليها ومحاولة إمساكه بخيط الفن العنيد، كند الكتابة نفسها. الإمساك به (الفن) في حبه العابر راقصةً من دار السلام، أو محبته الرسم أو تأملاته الرعود والسحب والأمطار، وكأنها إجاباتٌ عن ثغرات في قضية قتل أو خطف أو حتى عشق يصعب تأويله. مثل حب الراوي لتلك الفتاة صاحبة الألغاز وصاحبة القطط، وأعتقد أنها من أجمل فصول الرواية وأشدّها تماسكا وبعدا عن أساليب الراوي الشائعة التي كثيرا ما يستخدمها في الشائع والمألوف من الأمثال والحكم واستعراض الثقافة والمعرفة بالموسيقى وغيرها، مما يثقل العمل الفني، وإن زاد في أوراق الرواية فقط. 
ضابط الشرطة أو الراوي المشغول باللوحة تارة، والعشق تارات، وإنسانية المجرمين والمسجلين وكبيرهم وجنازة ابن كبير المرشدين، بعدما أحيل الضابط إلى المعاش من الشرطة، كلها حقائق تلامس الأوهام في بنية السرد، وأحيانا تكون كالأوهام التي تلامس الحقائق، مثل جنازة عماد حمدي الحقيقية في جامع عمر مكرم، الفقيرة في جموعها إلا من الفضوليين، وصورة عماد في جدار المقهى والدخان الأزرق يخرج كثيفا في وسط العوامة في فيلم "ثرثرة فوق النيل"، وكأن الصورة أكثر بهاء وسلطة من جثة الممثل في جامع عمر مكرم، وكأن الضابط يعزّي نفسه بالصورة فقط، أي بالفيلم، أما الواقع الفعلي فمحض هزيمةٍ صغيرةٍ وسط فضوليين في جامع عمر مكرم.
"أنت تعرف أن ابنك فنان، نسي نفسه وربما نسي مهمته، وذهب خلف جثمان عماد حمدي كي يدفنه بنفسه"، وذلك من دون أن يعرف الضابط الكبير أن الضابط المكلف ذهب إلى المقهى يأخذ نَفَسين، فرأى عماد حمدي شبه الحقيقي على الجدران في العوّامة يدخن.
ولنا أن نتساءل هل الفن أو ما يذهب وراءه الفنان في كل أحلامه وتشوّقاته، هل هو الحقيقي أم الوهمي؟ وهل نحن نعيش في وهمٍ مصنوعٍ كما قال أفلاطون، وما الحقيقة إلا هي التي هناك، كمجموعة من الصور على جدران الكهف، كراقصة دار السلام وقدمها الصغير وهي تخرج كالناس، بعدما تزاول ليلا مهنةً لم يرها فيها الناس، ولم يرحبوا بها بالطبع، لو عرفوا، وتشبه أيضا محبّة هذه الفتاة التي أخلصت للقطط، وجعلت ألغاز القطط هو بحر خيالها الوحيد الصالح للتعامل معه، بدلا من الواقع الحي؟
يقفز وحيد الطويلة سريعا في سرده مثل ضابط المباحث، من شخصية إلى أخرى، من دون أن يفقد ذلك الخيط الأول الذي سعى إليه منذ البداية، وهو استعراض الجانب الإنساني في فئة المسجلين خطرا والمرشدين، وطنية الضباط وما آمنوا به، حتى وهم في قراهم البعيدة، قبل أن يصلوا إلى كلية الشرطة، وتتطلع لهم بنات المدارس في نهم وهم في بدلاتهم الشرطية، وبعدما كبروا وصاروا ضباطا في الأقسام، وتداخلوا ما بين الناس والحياة بانكساراتها، تأكدوا من أن الحياة فقط هي: مجرد واحد وواحد يساوي اثنين والحب وهم وكلام شعراء وأداء الوجب هو الصح وبعد ذلك هو الطوفان، وما المرشد إلا سلمة للترقي وجمع المعلومات، حتى يأتي ضابط آخر ويستغني عنه وعن معلوماته، ويجد نفسه سجينا أو هاربا.
ظل وحيد محافظا على المسافة الإنسانية التي تربطه بهؤلاء، من دون أن يجرح تلك الخصوصية أو ينتهكها، ولو راهن، منذ البداية، على هذا الخيط وحده من دون ادعاء معرفة أو إحاطة أو تمثل حالة الراوي العليم بكل شيء، لكان لهذا الجهد الكبير شأنٌ آخر.