"ربيع لبنان" وتوتّر حزب الله

"ربيع لبنان" وتوتّر حزب الله

01 نوفمبر 2019
+ الخط -
إنها على الأرجح المرحلة الأصعب في مسيرة حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله. الشارع يميد من تحت رجليه، والسلطة التي هندسها ليتحصّن بها تنهار من حوله إلى درجة أنه وقف ووراءه، لأول مرة، العلم اللبناني، وكأنه في دور رجل الدولة، وراح يدافع عن الحكومة وعن رئيس الجمهورية، وعن عمل المؤسسات ويروج إصلاحا تدريجيا لا يمكن أن يحصل في الشارع. بدا نصر الله متوجسا من الشارع والساحات التي افترشها مئات آلاف اللبنانيين في انتفاضةٍ غير مسبوقة، عمت المدن كافة من الشمال إلى الجنوب إلى البقاع، مطالبين بتصفير السلطة من رأس الهرم إلى آخر نائب في البرلمان. إنها الانتفاضة الثانية في أقل من خمس عشرة سنة، الأولى "انتفاضة الاستقلال" التي حرّرت لبنان من الوصاية السورية، وأعادت إليه سيادته وحريته، ودفعت، في الوقت نفسه، حزب الله إلى الواجهة السياسية والأمنية، ليحل محل الجيش السوري. اما الثانية فهي بحق "ربيع لبنان" الفعلي الخارج عن سلطة الأحزاب، والذي يخترق بمطالبه مختلف الشرائح الاجتماعية موحّدا لأول مرة الطوائف والمذاهب والمناطق. وقد دخل هذا "الربيع التشريني" المفاجئ يومه الذي شارف الأسبوعين، بزخم يزيد يوما عن يوم، ويشتد شبابه تصميما وصلابة، على الرغم من الاعتداءات التي تتعرّض لها الساحة الرئيسية في وسط العاصمة، وأيضا الساحات الأخرى، وخصوصا الجنوبية منها. وهذا بالضبط ما يؤرّق الطبقة السياسية التي تبدو عاجزةً عن استيعاب ما حصل، ومصممة حتى الآن على عدم تقديم أي تنازل أمام انتفاضة مدن وساحات مطالبها وطنية لبنانية اجتماعية معيشية، تشمل فرص العمل والضمان الصحي والكهرباء والمياه والخدمات الأخرى، سئمت وعود السلطة وتسويفها وفسادها وصفقاتها المكشوفة. 
وهذه حقوق يتساوى فيها ويطالب بها جميع اللبنانيين، حتى الجمهور الشيعي في مناطق سيطرة 
حزب الله في الجنوب والبقاع. وهي لذلك ترفع في وجه الطبقة السياسية شعار "كلّن يعني كلّن" الذي أصبح على كل شفة ولسان، أي أن جميع أفراد السلطة فاسدون وعليهم جميعا أن يرحلوا. وهذا الشعار بالذات هو الذي يزعج نصر الله ويغضبه، لأنه يضعه في مصافّ الآخرين، ويعتبره فاسدا مثل الآخرين، وهذا ما دفع مجموعاتٍ من "القمصان السود" المعروفة من حزب الله للتوغل في ساحة الاعتصام المركزي والاعتداء على الناس بالعصي والحجارة، قبل ان يبدأ نصر الله كلمته التي اتهم فيها فئات ومجموعات في الحراك بأنها تقبض أموالا من السفارات الأجنبية، وأنها انحرفت عن مسارها السليم، وباتت في خدمة الولايات المتحدة والسعودية والإمارات. وقبل أيام، اعتدى مناصرون للحزب في النبطية على المتظاهرين بالعصي والسكاكين، وتوفي أحدهم متأثرا بجراحه، ولكن ذلك لم يمنع أهالي النبطية من العودة إلى ساحة المدينة، والاستمرار في اعتصامهم. مشكلة نصر الله الأساسية في هذه الانتفاضة العارمة التي يسعى إلى إعادة ضبطها هي التمرّد الشيعي غير المسبوق في مدن رئيسية شيعية في الجنوب، مثل صور والنبطية، وفي البقاع مثل بعلبك (خزّان المقاومة) وبريتال ومدن أخرى. إنه بمثابة إنذار للخروج على سلطة الحزب، وسيطرته في هذه المناطق التي كانت معقودة اللواء والولاء له. وقد حاول نصر الله تشويه صورة الحراك، آخذا على الانتفاضة عدم طرحها شعاراتٍ معادية لإسرائيل أو داعمة للمقاومة. ولهذا السبب، أنهى خطابه بعراضات ومسيرات حزبية حاشدة في ضاحية بيروت الجنوبية، وفي مدينتي صور والنبطية، تهتف بحياة "سيد المقاومة"، غير أن أكثر من ساحة وأكثر من هيئة من الهيئات المنضوية في الانتفاضة ترد على نصر الله بالقول إنه لا يمكن أن ينصب نفسه مدافعا عن الحكم وضامنا للمؤسسات، وحريصا على مصالح الناس والمال العام، وهو يقيم دويلةً داخل الدولة، ويملك سلاحا غير شرعي، يستقوي به على الدولة، ويستبيح أجهزة الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية، ويستولي بالتالي على قرارها العسكري والسياسي، ويقرّر سياستها الخارجية!
هذا هو القلق الحقيقي. وقد بات من الصعب على نصر الله إقناع ناسه بأنه خارج منظومة الفساد، ولا يتحمّل حزبه أي مسؤولية، تماما كما يدّعي تيار رئيس الجمهورية على اعتبار أنه مضى على
 وجوده في الحكم فقط ثلاث سنوات، علما أن الطرفين، سواء حزب الله أو التيار العوني، يشاركان في الحكومات المتعاقبة بدون انقطاع منذ ما بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005. كما أن كل الوزارات الخدماتية الحيوية مثل الطاقة (كهرباء وماء) والاتصالات، وأخيرا الصحة، هي في أيدي هذين الحزبين، ولدى الطرفين مع حلفائهما، أو حتى بمفردهما، الأكثرية داخل الحكومة، وهؤلاء قادرون بالتالي على إقرار أي قانون إصلاحي أو في مجال مكافحة الفساد، ولكنهم لم يفعلوا. ولم ينجح حزب الله في إبعاد شبهات الفساد عنه، عبر وضع يده على مداخيل الجمارك وعائداتها في المرفأ والمطار، وكذلك سيطرته على كل أنواع التجارة ونقل البضائع والتهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية بين الحدود اللبنانية والسورية، غير أن بعض حلفاء حزب الله، ولهذه الأسباب بالذات، يأخذون عليه أنه بدأ يتأقلم مع تركيبة السلطة، ويدافع عن منظومة الحكم القائم، ومتموضع مصلحيا داخل السلطة إلى جانب حيتان المال. ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، متهما نصر الله بتغليب البنية المذهبية للحزب، وبات شريكا في النظام الطائفي، يجلس مع أعداء المقاومة في حكومات واحدة، رافضا مطلب استقالة الحكومة، والذهاب إلى الانتخابات المبكرة. ويعيبون عليه، في المقابل، وصمه شباب الانتفاضة بالعمالة والتبعية للسفارات وللدول الأجنبية، وكذلك دفاعه عن "الورقة الإصلاحية" التي تلبي، برأيهم، الدول الممولة التي نظمت "مؤتمر سيدر" لدعم الإصلاحات، ولكنها تهدف، في الحقيقة، إلى خصخصة الأملاك العامة وبيع البلد.
أكثر من تحدٍّ رفعته هذه الانتفاضة التي أطلق عليها شبابها تسمية "ثورة" بوجه حزب الله، استعرضت السطور السابقة عددا منها، ولكن الأهم والأخطر هي طبيعة هذه "الثورة" وشموليتها وانتشارها في كل ساحة، وكل مدينة، وكل قرية، وكل حي من أحياء البلدات والمدن اللبنانية، وخصوصا اختراقها المدن الشيعية. وهذا ما يجعلها عصيةً على التركيع أو التطويع، أو حتى الاحتواء. إنها ثورة شباب جيل الإنترنت الذي لا خبرة سياسية لديه، ولا يملك حنكة السياسيين المحترفين أو مراوغتهم أو نفاقهم، ولكنه يعرف ماذا يريد، ومصمّم وصامد ومثابر على تحقيق أهدافه. تخطى الحواجز الطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية. أسلوب العمل والتنظيم والحشد جماعي وحضاري، وخصوصا غير أيديولوجي. عدم وجود قيادة رسمية ومعلنة تشل قدرة نصر الله على التدخل والتأثير، وتدفعه إلى مطالبة الحراك علنا بتشكيلها والكشف عنها. سلاح الشباب الأمضى حريته وعدم ثقته بالطبقة السياسية! أهم تحد أمام نصر الله، ومعظم الطبقة السياسية، أنهم لم يستوعبوا أن ما حصل قد تخطاهم، وأن لبنان قد انتقل إلى مرحلة جديدة، بغض النظر عن مصير "ثورة" الشباب ونتائجها.

دلالات

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.