شعبان وثورتان

شعبان وثورتان

26 أكتوبر 2019
+ الخط -
"طول عمرنا شعب جدي وملتزم وعقائدي".. بهذه الكلمات، اختصر صديق حال السوريين، في تعليق له على منشور على "فيسبوك" عن الفرق بين السوريين واللبنانيين، إذ نحن السوريين، فعلا، كنا شعبا متجهّما وجدّيا. على الأقل أتحدّث عن أجيال سورية عاصرتها منذ أكثر من خمسين عاما، فلم يتح للسوريين التخلّص من الحكم العثماني الذي فرض عليهم نظاما اجتماعيا دينيا صارما، ثم الثورات ضد الاحتلال الفرنسي القصير، حتى ابتلوا بنظام عسكري صارم بدأ مع الجمهورية العربية المتحدة، ثم انقلابات عسكرية انتهت بحكم حزب البعث العقائدي، المستلهم من التجربة النازية التي أعجب بها مؤسسو الحزب، مرورا بالنكبة في فلسطين العام 1948 ثم النكسة في 1967، ثم وضع سورية كلها رهنا للقضايا العروبية القومية التي تاجر بها "البعث" ونظام الأسد، وما زالت قيد المتاجرة، على الرغم من كل ما حصل في بلادنا، ومن كل جرائم النظام المهولة ضد السوريين، لا يمكن لمن يملك أدنى حس أخلاقي أو إنساني أن ينحاز إلى مرتكبها أو يتعاطف معه ولو لثانية. 
عمل حزب البعث على تنشئة الأجيال السورية نشأة عسكرية عقائدية، مستلهما التجربة الشيوعية الستالينية، ثم الماوية، حيث انخرط السوريون، منذ طفولتهم، في معسكراتٍ مختلفة، تمتد من المرحلة الابتدائية حتى الجامعية (الطلائع والشبيبة والمعسكرات الجامعية)، لكم أن تتخيّلوا أننا في المرحلة الإعدادية كنا نساق، فتيانا وفتيات، إلى حقول الرماية، لنتدرّب على حمل السلاح والتصويب. أتذكّر أن البندقية الروسية وقتها كانت أطول مني ومن زميلاتي، وأننا كنا نحفظ أسماء تفاصيل البارودة الروسية كما لو أنها ألعابنا. هذا عدا عن حصص الفتوة في المرحلتين، الإعدادية والثانوية، وكانت حصص إذلال، على الطريقة العسكرية الأمنية، للطلاب والطالبات. كما فُرض علينا اللباس العسكري الموحد في مدارسنا الإعدادية والثانوية، بحيث نبدو كما لو أننا جيش مجهز في كل لحظة للمعركة القريبة مع العدو.
لم يعرف السوريون النكتة السياسية، على الطريقة المصرية. كان خوفهم يمنعهم حتى من التنكيت على وضعهم السياسي، خوف مغلف بغلاف الرضا والقبول بالتضحية لصالح القضية العامة، ولم يعتادوا على تبادل النكات الجنسية على الطريقة اللبنانية إلا في المجالس الخاصة. كانت "البذاءة" عارا اجتماعيا، تستدعي خروج الرقيب الأخلاقي الكامن داخل كل منا! تخيّلوا أيضا أنه، خارج القدود الحلبية التراثية، لا توجد أغان سورية. كانت أغانينا عراقية أو لبنانية، حسب المنطقة الحدودية. الأغاني السورية التي ظهرت في الثمانينيات في غاية السماجة، مع أن السوريين يتميّزون بأصوات جميلة، حتى أجمل الأغنيات عن سورية كانت لبنانية كلمات وألحانا وأصواتا. لم ينتج السوريون أغنية وطنية، ليس فقط لأنهم، في قرارتهم، يدركون أن سورية ليست وطنا، بل لأنهم أكثر صرامةً من الانشغال بشأن تافه كالغناء. يجب أن نكون ملتزمين، فنحن حاملو هم الوطن والعروبة. أتذكر عام 2003 حين تنافست السورية رويدة عطية على المركز الأول في برنامج سوبر ستار مع الأردنية ديانا كرزون، أن ما جعل كرزون تتقدّم إلى المركز الأول هو خجل السوريين من الاتصال والتصويت لصالح رويدة. "ما هذه التفاهة".. كانوا يقولون، حين يُطلب منهم التصويت.
الحروب الأهلية اللبنانية التي أنتجت ديمقراطية طوائفية خلصت اللبنانيين من الرطانة الأخلاقية في التعامل مع الحياة. السياسيون وزعماء الطوائف كانوا مشغولين بالمحاصصة السياسية والاقتصادية، ما أبعد القبضة الصارمة عن المجتمع الذي بات أكثر حرية وانفتاحا من باقي الدول العربية. بقي لبنان متفرّدا، ووحدهم اللبنانيون يمتلكون حرية اجتماعية فارقة، على الرغم من قوانين ذكورية طائفية ترجع إليها المحاكم الشرعية والكنسية المختلفة، وهو ما تريد الثورة الحالية تفكيكه.
هل من العدل المقارنة بين الثورتين السورية واللبنانية؟ أظن لا، إذ هناك ثماني سنوات بين الثورتين حدثت خلالها متغيرات كثيرة على المستويين، المحلي والعالمي. وهناك فروق كثيرة بين بنيتي المجتمعين، اللبناني والسوري، فبينما على السوريين أن يمرّوا بمرحلة تفكيك المجتمع وبنية النظام العميقة المتماسكة، وهو ما يحدث الآن، تسعى انتفاضة اللبنانيين إلى كتابة عقد اجتماعي ناظم للمجتمع المفكّك طوائفيا ومذهبيا، وإعادة بناء دولة حديثة عصرية، بعد أن فتكت الحروب الأهلية ببنيان الدولة اللبنانية.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.