حدود استراتيجية أميركا تجاه إيران وعيوبها

حدود استراتيجية أميركا تجاه إيران وعيوبها

22 أكتوبر 2019
+ الخط -
يتطلب نقد استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع إيران أولاً تعريفها. وهنا يمكن الحديث عن تعريفَين أساسيين لهذه الاستراتيجية. الأول هو الأكثر شيوعا، نظرا لأن الإدارة الأميركية تتبنّاه، وتعتمد عليه في شرح سياستها تجاه إيران في الداخل والخارج. أما التعريف الثاني فأوسع وأعم، ولا يظهر في أدبيات الإدارة الأميركية، ولا في كثير من تقارير مراكز الأبحاث الأميركية نفسها.
يقوم التعريف الأول على مفاهيم كنظرة أميركا لإيران "دولةً راعية للإرهاب" وسياسة "الضغوط القصوى" التي تستخدمها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد إيران، لإلزامها بإعادة التفاوض بشأن برامجها النووية والصاروخية وسياستها في المنطقة. ويرى أصحاب هذا التوجه أن إيران دولة مارقة راعية للإرهاب، وأن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أخطأ حين وافق على الاتفاق النووي مع إيران (2015)، والذي سمح لإيران بالحفاظ على برنامجها النووي، وإن قلل معدلات تخصيب اليورانيوم، وسمح بالرقابة الدولية عليه.
لذا ينادي ترامب، وأنصار سياسته الراهنة تجاه إيران، بضرورة ممارسة ضغوط قصوى على إيران، لإرغامها على إعادة التفاوض. وفي مقدمة تلك الضغوط الانسحاب من الاتفاق النووي، كما فعل ترامب في مايو/ أيار 2018، والعقوبات الاقتصادية المشدّدة، وبناء تحالف دولي ضد إيران، والضغط العسكري على إيران وحلفائها في المنطقة، من خلال دعم حلفاء أميركا عسكريا من ناحية، واستهداف المليشيات العسكرية التابعة لإيران والمتحالف معها، في دول مثل سورية والعراق، من ناحية أخرى.
وقد ترتب على سياسات إدارة ترامب السابقة، تغيير إيران ردود أفعالها من سياسة "الصبر الاستراتيجي" إلى سياسة "التصعيد المحسوب المتبادل". فقبل صيف العالم الحالي (تحديدا مايو/ أيار 2019) تعمّدت إيران سياسة الصبر تجاه خروج أميركا من الاتفاقية النووية 
والمرحلة الأولى من العقوبات المفروضة عليها، أملاً في أن يتوصل الأوروبيون إلى آلية تضمن لها تخفيف آثار العقوبات الأميركية الاقتصادية ولو جزئياً. ومع فشل الأوروبيين في التوصل إلى هذه الآلية، بدأت إيران في التخلي عن التزاماتها النووية من ناحية، وبدأ التصعيد العسكري في المنطقة من إيران وأطراف محسوبة عليها من ناحية أخرى. حيث أسقطت إيران طائرة أميركية بدون طيار (20 يونيو/ حزيران). كما تم استهداف ناقلات نفط قرب السواحل الإماراتية (12-13 مايو/ أيار)، واستهداف معامل تكرير ومصافي نفط رئيسية في السعودية (14 سبتمبر/ أيلول).
ويلاحظ هنا أن إيران اتبعت سياسة التصعيد التدريجي المحسوب، والذي لا يقود إلى مواجهة شاملة. حيث تدرجت في تخفيض التزاماتها النووية ورفع معدلات تخصيب اليورانيوم. وتم استهداف ناقلات النفط قرب سواحل الإمارات بألغامٍ وضعت قرب السطح، لضمان عدم غرق الناقلات. ولما احتجزت إيران ناقلة بريطانية، ردا على احتجاز بريطانيا ناقلة نفط إيرانية في جبل طارق، استهدفت إيران ناقلة يعمل عليها عمال هنود، وكان الهجوم على خريص وبقيق يمكن أن يكون أكثر تدميراً لو أراد مرتكبوه.
أحرجت التصعيدات السابقة أميركا، ودفعتها إلى فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية من ناحية، والتلويح باستخدام القوة العسكرية من ناحية أخرى، خصوصا بعد إسقاط الطائرة بدون طيار الأميركية، واستهداف منشآت النفط السعودية. ولكن بمرور الوقت بدا جليا تراجع الخيار العسكري الأميركي لأكثر من سبب، وفي مقدمتها التبعات الأمنية لأي ضربة عسكرية أميركية لإيران، وإمكانية أن تؤدي تلك الضربة إلى حرب شاملة في المنطقة بين أميركا وحلفائها وإيران والجماعات المتحالفة معها في العراق وسورية ولبنان واليمن.
ويفيد تقرير لخدمة أبحاث الكونغرس صدر في 23 سبتمبر/ أيلول عن "التوتر الأميركي الإيراني وتبعاته على السياسة الأميركية" بأن أميركا قد تحتاج أكثر من مائة ألف جندي في المنطقة في حالة اندلاع حرب ضد إيران (مقارنة بخمسة وثلاثين ألفا حاليا)، وأن تلك الحرب سوف تكون أصعب من حرب العراق. كما جاء التقرير نفسه على وجود خلاف بين ترامب والكونغرس حول ما إذا كان ترامب يملك صلاحية شن هذه الحرب من أساسه، ناهيك عن 
تراجع دعم الرأي العام الأميركي لأي حروبٍ أميركية جديدة في المنطقة.
ومع تراجع الخيار العسكري الأميركي، تبقى للولايات المتحدة خياراتٌ أخرى ضمن تلك الاستراتيجية، وفي مقدمتها زيادة العقوبات الاقتصادية، وبناء تحالف بحري دولي لحماية مياه الخليج، واستهداف الجماعات المتحالفة مع إيران في المنطقة بالعقوبات الاقتصادية والضربات العسكرية، ودعم حلفاء أميركا دفاعيا في مواجهة إيران، كما حدث في إرسال مزيد من الجنود الأميركيين إلى السعودية أخيرا. ويلاحظ هنا أن إدارة الرئيس ترامب استبعدت تغيير النظام الإيراني أداة من أدوات استراتيجية الضغوط القصوى، حيث تخشى الولايات المتحدة من أن تغيير النظام الإيراني مكلف للغاية. كما أنه قد يأتي بحكومة إيرانية جديدة أكثر عداءً لأميركا، في ظل الخبرة التاريخية السيئة التي يمتلكها الإيرانيون مع الولايات المتحدة، وكيف أسقطت في الخمسينيات حكومة مصدق المنتخبة، لأنها عارضت مصالحها.
يرى أنصار "الاستراتيجية الشاملة" في مواجهة إيران أن استراتيجية "الضغوط القصوى" قاصرة على أكثر من مستوى، وفي مقدمتها النظر إلى إيران من منظور "الدول الراعية الإرهاب". ورفض رؤية إيران دولةً تملك استراتيجية مركبة، لتحقيق مصالحها الوطنية قد تتفوق على حلفاء أميركا أنفسهم، فإيران دولة لديها أيدولوجيتها السياسية الداخلية، ونظام الحكم الخاص بها، كما أنها تنتمي خارجيا لما يسمّى محور "المقاومة" الرافض للهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي، وهو محور يضم، في عضويته، بعض الفصائل الفلسطينية، كحماس والجهاد الإسلامي، ولا يقتصر في عضويته على الجماعات الشيعية المتحالفة مع إيران فقط.
القصور الرئيسي الثاني في استراتيجية الضغوط القصوى هو أنها تتهرّب من مسؤولية تطوير سياسة أميركية شاملة ومتجانسة في المنطقة، فإدارة ترامب التي تريد ممارسة ضغوط قصوى
على إيران لإخضاعها هي التي أعلنت عن سحب قواتها أخيرا من شمال سورية بشكل سريع ومتضارب، دفع القوات الكردية الحليفة لأميركا إلى دعوة قوات الحكومة السورية المتحالفة مع إيران لدخول أراضيها. وهي الإدارة نفسها التي وافقت على حصار قطر، في بدايته، ولم تفعل الكثير لإسقاطه حتى الآن، ما دفع قطر إلى مزيد من التقارب مع إيران، والتي باتت منفذا لطائراتها ومصدرا لسلعها الغذائية، في ظل الحصار المفروض عليها. وإدارة ترامب هي أيضا من عجزت عن تطوير أي استراتيجيةٍ تذكر في سورية واليمن، ما ساعد إيران على التمدّد في البلدين.
ويلاحظ هنا أن الأخطاء الأميركية السابقة قديمة، ولا تقتصر على إدارة ترامب، فإدارة الرئيس السابق، أوباما، فشلت في سورية وتركت الساحة للنفوذين، الروسي والإيراني. كما فشلت في التعامل مع قوى الربيع العربي، والتي كانت كفيلةً بمواجهة النفوذ الإيراني في دول كسورية والعراق واليمن. وتركت لحلفائها الخليجيين الساحة للقضاء على التمدّد الديمقراطي، بما ساهم في تعميق أزمات المنطقة، والتي استفادت منها إيران في التوسع. ويجب هنا الإشارة إلى أخطاء إدارة الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، في حرب العراق وكيف سمحت لإيران بالتمدّد هناك.
هذا يعني أن الإدارات الأميركية المتعاقبة فشلت، منذ فترة طويلة، في بناء سياسةٍ شاملةٍ ومتجانسةٍ تجاه إيران والمنطقة، نظرا إلى تحالفها الأساسي مع الاحتلال الإسرائيلي والديكتاتوريات العربية، ما جعلها تعجز عن بناء سياسة إقليمية متجانسة، تحل مشكلات المنطقة، وتوقف التمدّد الإيراني المستفيد من تلك الأزمات. تريد أميركا مواجهة إيران، من خلال سياسة جزئية مقتطعة تستهدف النظام الإيراني، وعوامل قوته الظاهرية، من دون أن تبحث في الأسباب العميقة لقوته وتمدّده. وهذا ما يجعل الوقت في صالح إيران، فالعقوبات الاقتصادية غير كفيلة بإسقاط الأنظمة، أو تغيير استراتيجياته الرئيسية. وبدون علاج جاد لمشكلات المنطقة العميقة، سوف تستمر إيران في التمدّد، وإيجاد مصادر الدعم.