الكُرد بين صراع الأضداد

الكُرد بين صراع الأضداد

04 يناير 2019

سورية كردية في مظاهرة في القامشلي (13/10/2018/فرانس برس)

+ الخط -
ليس للحرب في سورية أي نظير منذ الحرب العالمية الثانية في النصف الأول من القرن الماضي، من جهة التناقضات الحاصلة فيها وعليها، فقد وقفت دول كبرى عديدة مواقف متناقضة في زمن قياسي، وكانت لعبة الكراسي الموسيقية التعبير الأدق عن الحالة التي اعترت المشهد السوري السوريالي.
أدخلت سورية العالم كله في موجةٍ من التردّد السياسي غير المسبوق، بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بالاتحاد الروسي، وليس انتهاءً بالقوى الإقليمية مثل تركيا والسعودية. ووحده ظل الموقف الإيراني ثابتاً، فنظام الجمهورية الإسلامية حسم خياره منذ الأيام الأولى للحرب، حيث شارك بشكل مباشر، وغير مباشر، في قمع الاحتجاجات غير المسبوقة في بلدٍ اعتاد الصمت المطبق، ولم يعرف التعدّدية السياسية منذ ستينيات القرن الماضي.
لم يشذّ الكُرد عن القاعدة السورية العامة. تردّدوا في التعامل مع الوضع القائم. شاركوا، بحدود، في الاحتجاجات السلمية خلال الأشهر الأولى للأزمة، وما لبث أن تم الفرز بين طرفٍ نسّق مع دمشق، وأنشأ مشروعاً للإدارة الذاتية مع مكونات المنطقة الموالية له (حزب الاتحاد الديمقراطي)، وآخر اختار الوقوف مع صف الداعين إلى إسقاط النظام (المجلس الوطني الكُردي).
كان مشروع "الاتحاد الديمقراطي" منظماً إلى درجة أنه أصبح واقعاً في فترة قصيرة نسبياً، 
بالتزامن مع انسحاباتٍ رسميةٍ سوريةٍ لصالح تنظيمه العسكري "وحدات حماية الشعب"، ولاحقاً تخلى رويداً رويداً عن دعم دمشق في مقابل العلاقة مع واشنطن. أما "الوطني الكُردي" فكان واضحاً في اتجاهه السياسيّ، حيث وقف في صف المعارضة، بدءاً من المجلس الوطني السوري منذ تأسيسه في إسطنبول عام 2011، وصولاً إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي تأسس في الدوحة عام 2015، انتهاءً بالهيئة العليا للتفاوض.
بقيت القضية الكُردية تشكل حالة شدٍّ وجذب لدول منطقة الشرق الأوسط، ولعلها أصبحت بيضة القبان في توازنات المنطقة، في ظل الصراعات الطائفية التي تعصف بالمنطقة. الشعب المقسم بين دولة فارسية شيعية، تسخر كل الانتماءات خدمة لأيديولوجيتها، وأخرى طورانية قائمة على أنقاض دولةٍ عثمانيةٍ بنظام قومي بحت، يلغي كل ما سواه. وفي العراق، تعرّض الكرد لحملات إبادة جماعية ومجزرة كيميائية في حلبجة عام 1988. أما في سورية، فكان الوضع مختلفاً، فإنكار الوجود الكُردي كان ديدن الحكومات السورية المتعاقبة، فَحُرمَ آلاف منهم من الجنسية.
لم تُعرَف القضية الكُردية في سورية بشكلها الصرف كما في الأعوام التي تلت 2011؛ مع سيطرة وحدات حماية الشعب "الكُردية" على المناطق ذات الغالبية السكانية الكُردية، وأصبحوا بذلك رقماً صعباً في المعادلة السورية. وأصبحت مناطق "الإدارة الذاتية" الممتدة من ديريك شرقاً إلى عفرين غرباَ تتمتع بحكم ذاتي، وتحالفت مع الولايات المتحدة منذ معركة استعادة السيطرة على عين العرب أواخر العام 2013، وتوجت بعدها بالسيطرة على مدن تل أبيض ومنبج والرقة (عاصمة تنظيم داعش) وأجزاء دير الزور الواقعة شرق نهر الفرات، والتي اعتُبِرَت حدوداً لمناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" المحمية أميركياً في مقابل نفوذ روسيا الاتحادية على غرب الفرات، وفق تفاهمات الوزيرين، الأميركي جون كيري والروسي لافروف، منتصف العام 2016، بالإضافة إلى منطقتي نفوذ تركية، أولاهما في ما تسمى منطقة درع الفرات، وتضم مدن جرابلس والباب وإعزاز، والثانية في إدلب.
لم تقطع الإدارة الذاتية الكُردية خيوط الاتصال مع روسيا، على الرغم من أنها جزء من التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ولكن موسكو لم تكن لترضى بدعم كيان مرتبط بعلاقات مميزة مع خصمها واشنطن. وجرّاء ذلك سلمت مدينة عفرين لتركيا، بعد أن كانت موجودة بعسكرييها في المدينة إلى أن انسحبت منها، تمهيداً لعملية غصن الزيتون أوائل العام 2018، والتي سيطرت فصائل سورية معارضة مدعومة من الجيش التركي عليها.
حاولت أنقرة إبرام صفقة مماثلة مع إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في منبج (غرب الفرات) تمهيداً لأخرى في منطقة شرق الفرات، والقضاء على الإدارة الذاتية الكُردية، لكن الاتفاق لم يتم تطبيقه بشكل نهائي، إلى أن أعلن ترامب سحب قواته العاملة في سورية بشكل سريع وكامل، الأمر الذي أربك حسابات الجميع في الملف السوري. ولم تشكل كامل المنطقة الحدودية بين تركيا ومناطق الإدارة الذاتية أي تهديد كردي على أنقرة، وعلى النقيض من ذلك، كانت الحدود التركية مقرّاً وممراً لفصائل سورية معارضة، وجهادية متطرفة، هاجمت فيها مناطق سيطرة الكُرد. وتبقى هناك هواجس لسيناريو مشابه لعفرين في شرق الفرات، في ظل قرب انتهاء المعارك وبدء عقد الصفقات بين الدول الكبرى.
وقد وضع الانسحاب الأميركي أفرقاء تفاهمات أستانة (روسيا وإيران وتركيا) في حيرة،
 فروسيا وإيران تخشيان من سيطرة أنقرة على المنطقة الاستراتيجية الغنية، ما سيمكن تركيا من فرض سيناريوهات على مستقبل سورية، وترغبان في أن تستحوذ الحكومة السورية على تركة الولايات المتحدة في شرق الفرات. ولعل إعلان الجيش السوري دخوله مدينة منبج أولى أمارات هذا التوجه. وفي المقابل، كانت الولايات المتحدة قد أعلنت أنها ستنسحب من سورية، وستسلم مناطقها للجيش التركي، فالرئيس ترامب قالها من دون مواربة لنظيره التركي "سورية كلها لك.. لقد انتهينا"، لكن من الصعوبة بمكان تخيّل هجوم تركي، من دون التنسيق مع روسيا، كما حصل في عفرين سابقاً. وعليه، التهديدات التركية، على جديتها، غير قابلة للتطبيق في الوقت الراهن، فحكومة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أضعف من أن تهاجم منطقة ما، من دون التنسيق مع القوى العظمى.
يراهن حزب الاتحاد الديمقراطي على التناقضات بين القوى الإقليمية والدولية، للوصول إلى الحقوق الكُردية التي طالما أنكرتها الحكومات المتعاقبة، ووجدوا فيهم، في أحسن الأحوال، أقلية تعيش ضمن حقوقٍ مقيدة، لا ترقى إلى درجة المواطنة الكاملة، والعيش في بلدٍ لا يميز بين شعوبه. ويبقى الخيار الأسلم أمام "الاتحاد الديمقراطي" هو التفاوض مع الحكومة السورية، وبضمانةٍ روسية، والمطالبة بحقوق قابلة للتحصيل، والتخلي عن المشاريع الطوباوية التي تسيطر على مخيلته منذ سنوات، ولم ينل الكُرد منها سوى الخيبات.
2C20BE7F-3960-4914-BCD2-80D0B345F564
2C20BE7F-3960-4914-BCD2-80D0B345F564
آلان حسن

كاتب سوري، ينشر في عدد من وسائل الإعلام العربيّة والدوليّة

آلان حسن