لا كبار في العراق

لا كبار في العراق

26 سبتمبر 2018
+ الخط -
أدرك العراقيون، ولو متأخرين، أن اللعبة لم تنته بعد، وأن عليهم الانتظار أربع سنين عجاف أخرى. ربما أكثر، من يدري. هكذا يفقد العراقيون شيئا فشيئا آمالهم في التغيير والتقدّم، كما وينسون أحلامهم التي عقدوها على بلدهم عشرات السنين، وهكذا يبدو الخصوم وكأنهم أقوى مما هم فيه، إلى درجة أنهم يجدون في أنفسهم القدرة على إدمان السيطرة، وإحكام الحصار، والرهان على دوام الحال، ويجعلون بعض الذين أملوا اختراقا هنا، أو اختراقا هناك، يعودون إلى مواقعهم بخفّي حنين!
خمسة عشر عاما، والعراقيون يعيشون لحظة "الأزمة" التي وصفها مرة المفكر اليساري، أنطونيو غرامشي، بأنها "اللحظة التي يموت فيها القديم، في حين أن الجديد لم يكن قد ولد بعد"، إنها معادلة سريالية مثيرة للقلق وعدم اليقين، واليأس، وحتى الشعور بالذنب، أو جلد الذات الذي يمكن أن يضعف إرادة الفرد، ويُقصيه عن المساهمة في بذل مجهودٍ مطلوبٍ منه، للتقدّم إلى أمام. الحالة العراقية الراهنة مثال حي على صحة مقولة غرامشي، فقد امتلأت الأعوام الخمسة عشر العجفاء بالمرارة والخيبة، وضياع البوصلة، والتشبث بآمالٍ صغيرةٍ، ووعودٍ كاذبةٍ، يطلقها مالكو السلطة والثروة والقرار، آخر عينةٍ منها مسرحية "الانتخابات البرلمانية" التي حملت مقادير من السوء والزيف والخداع وسقوط الضمير، ولم تعد وقائعها خافيةً على أحد. وفي آخر المطاف، اكتشف من أعطى صوته لهذا الطرف أو ذاك أن الأطراف كلها سواء، وأنه ليس بالصندوق وحده تتحقق الديمقراطية. وحتى الذين اكتشفوا اللعبة مبكرين، واتخذوا قرارهم بمقاطعة الانتخابات، فإن معظمهم تراجع إلى الخلف، وفضّل الوقوف على التل، ومراقبة ما يجري من دون فعل ما، خصوصا بعد أن استطاع رجال الحكم تهميش انتفاضة البصرة ومدن الجنوب، وإجبار من رفع صوته بالاحتجاج على الانكفاء، ومغادرة الميدان، ولو إلى حين.
وفي متابعة المشهد السياسي الماثل، تصدم المرء وقائع لدولةٍ فاشلةٍ تقودها قوى محتلة، 
ومتواطئة على رسم (وتنفيذ) سياسات تديم الحال، وتحقق لها ما تبغيه من أرباحٍ ومكتسباتٍ، على حساب المواطن المقهور. وتكفي نظرة سريعة على شريط الأخبار اليومي لتكشف المستور، حيث يلتقي المبعوث الأميركي، بريت ماكفورك، مع قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، لبحث ملف التشكيل الوزاري. وعند صياح الديك، ينفي أحدُهما اجتماعه بالآخر، ويصرّح السفير البريطاني، جون ويلكس، في تغريدة له، أنه التقى قاسم سليماني، واتفقا على"أن الحكومة (العراقية) القادمة يجب أن تحسّن حدماتها المقدّمة، وتوفر الوظائف للشعب". ويضحك المرء من رد وزارة الخارجية الكاريكاتوري على "التغريدة"، والجازم بأن "قرار تشكيل الحكومة العراقية قرارٌ وطني محض، وأن المهام الموكولة إليها هي تكليف شعبي عبر البرلمان العراقي وبرقابته". ويزداد ضحكه الذي يشبه البكاء، عندما يقرأ أن عديدا من رجال "العملية السياسية" أعربوا عن رفضهم التدخلات الأجنبية في الشؤون العراقية، بحسب الأسطوانة المشروخة القائلة "إن العراق دولة مستقلة وذات سيادة".
ولو أن واحدا منهم انتفض، كما انتفض، عبد المحسن السعدون، في وجه الإنكليز قبل تسعة عقود، وأقر علنا بأن الأمة تريد الخدمة، والأميركيين والإيرانيين لا يوافقون. عند ذاك، كنا سنهتف له، ونرفع اللافتات التي تمجّد فعلته، ونلصق صوره على الجدران، لكن يبدو أن لا أحد منهم يجرؤ على خطوةٍ كهذه، قد تكلفه كل ما غنمه، وإذ فكر بعضهم بالقفز من السفينة، كي ينجو بجلده، تراجع عن موقفه، بعدما طمأنته مرجعيته بأن السفينة قادرةٌ على الإبحار، ولن تغرق في المدى القريب على الأقل!
وفي ظل تدخل أجنبي شرس في شؤون البلاد، وفي غياب خيار أيديولوجي سليم، أو حركة وطنية شاملة، يقودها أناسٌ مقتدرون وفاعلون، تتكرّر وقائع المشهد السياسي الماثل، إلى درجة إغراق المواطن العادي بالضجر، وشعوره الفادح بالعجز عن فعل أي شيء.
هكذا حال العراق اليوم، وهو يشبه الحال الذي رصده القس الذي رافق الروائي والمفكر الفرنسي أندريه مالرو، في رحلة هروبه من باريس في أثناء الحرب الكونية الثانية، وسجل انطباعاته عن الحال في عبارة واحدة: "خلاصة كل شيء أن ليس ثمة أشخاص كبار".
نعم.. خلاصة كل شيء في العراق اليوم أن ليس ثمّة أشخاص كبار.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"