عن الدولة والديمقراطية و"الحرقة" في تونس

عن الدولة والديمقراطية و"الحرقة" في تونس

22 سبتمبر 2018
+ الخط -
ليست هذه المقالة بصدد استعادة التنظيرات الكثيرة التي وضعها المنظّرون من مختلف حقول المعرفة السوسيو- سياسية والقانونية والفلسفية والأنثروبولوجية، عن مفاهيم الدولة والتغيرات التي شهدتها عبر العصور، ومدى عدل الدولة وإنصافها والتزامها القانون والشرائع التي تتفق عليها الشعوب، وترتضيها لنفسها، وغيرها من القيم الإنسانية السامية، فذلك من محتويات كتب كثيرة يتداولها الدارسون والطلاب وهواة المعرفة وعشاق الفكر. ولكن المقالة بصدد تناول نوع خاص من الدولة، ظهر في الوطن العربي في المرحلة البوست - كولونيالية، لا يراد هنا تسميتها الدولة المستبدة أو الديكتاتورية أو القمعية أو حتى الفاشية، لأن تلك السمات مشاعة ومشتركة بين دول معاصرة كثيرة. هي فقط الدولة التي تناقض مجتمعها وتعاديه، وتقف بكل الوسائل الممكنة القانونية والأمنية والعسكرية والثقافية والتربوية ضد شعبها وإرادته في الحياة والحرية، فهي لا ترتقي إلى مستوى الوظيفة البسيطة، بوصفها جهازا يدير شؤون المجتمع، وينظم حياته ويساعده على حلّ مشكلاته اليومية، قبل أن تكون مجموعة من السلطات والتشريعات والمؤسسات التي تؤمّن استمرارية الدولة وتُنْفذ القانون، وبالتالي بقاء المجتمع وحمايته وتواصله، كيانا له خصوصياته التي تميزه عن غيره، وله القدرة على العيش والديمومة. وعلى الرغم من أزماتها الهيكلية المزمنة، ودخولها مرحلة الاحتضار والموت السريري، مثلما حال دول عربية غير قليلة في اليمن والعراق وليبيا وسورية، وهي الدول التي تمت صوملتها وتدمير مؤسساتها وجيوشها بقوة سلاح قوى خارجية، ذات طبيعة كولونيالية صرفة، ودول أخرى عاجزة عن تأمين قوت رعاياها، مثل مصر والسودان وتونس والمغرب ولبنان، فإن خيال الدولة وضجيجها وشكلانيتها لا يزال قائما، حتى وهي مفكّكة فاقدة القدرة 
على الدفاع عن نفسها وعن رعاياها، متعدّدة مراكز السلطة، تحكمها كيانات العصابة والطائفة والقبيلة والعرش والأسرة والجماعة الدينية، ولوبيات الفساد والمجموعات الموالية للأجنبي.
الدولة التونسية نموذج يحاول الإفلات من المصير الذي لقيته دولٌ عربية شهدت الانتفاضات الشعبية، أو التدخل الأجنبي، سياسيا كان أو عسكريا، ما أدى إلى ما انتهت إليه من حروب أهلية، وعقم سياسي، وفشل اقتصادي وتنموي، وغياب المؤسسات الموحّدة، وفقدان السيادة الوطنية. آلية الإفلات هي النظام الديمقراطي، والمشاركة الشعبية التي اهتدى إليها التونسيون منذ سنة 2011 بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، وإعادة صياغة النصوص الأساسية للدولة، مثل الدستور وقوانين الأحزاب والجمعيات والصحافة والانتخابات، ونشأة الهيئات الدستورية، والتداول السلمي على السلطة وفق نظام سياسي، تغلب عليه السمة البرلمانية، كان محل إجماع الألوان السياسية والأيديولوجية الكبرى التي تشكّل منها المجلس الوطني التأسيسي، واضع دستور 2014.
ولكن سرعان ما ظهر للعيان العجز الذي يصاحب الدولة التونسية، وهي تعيش نشوة الديمقراطية الناشئة، أو التحوّل الديمقراطي، التسمية المفضّلة لدى مقاولي المراحل الانتقالية، عجزٌ في معالجة أزماتها الهيكلية المتفاقمة التي هي أقلّ خطورةً من نظيراتها التي أدت إلى تفكك دول عربية، لكنها وضعت الحكومات المتعاقبة، ومؤسسات الدولة وآليات اشتغالها، محلّ اختبار صعب، فبينت عجز الديمقراطية والنصوص التشريعية الجميلة التي صادق عليها البرلمان الديمقراطي على حماية المواطنين من بطش الدولة وقمعها، والحفاظ على حقهم في الحياة والعمل والكرامة والحرية والتعبير.
أمثلة كثيرة تؤكد صدق هذا، لكن المثال الصارخ المشحون بالتحدّيات للدولة ومؤسساتها هو الهجرة السرية المعروفة بـ"الحرقة"، والتي يُجمع دارسوها على تحوّلها ظاهرةً اجتماعيةً كلية، استوجبت الفهم والبحث والدراسة، بعد أن كانت مجرّد سلوك أو سلوكيات فردية، لتحقيق النجاة والخلاص من القهر الوطني الذي يخفي في أكمته كل الحقوق المدوّنة في النصوص الكبرى، مثل حق الشغل وحق التعبير والتنظيم والتملك والصحة والنقل والحرمات بأنواعها، خصوصا الحرمة الجسدية، لتنقلب جميعا طوباوياتٍ تتجمل بها المعاجم القانونية والسياسية والمدونات الدستورية المنمقة، أو هكذا يتمثّلها الجمهور الواسع من "الحراقة".
أبشع تجليات القهر الوطني الذي تمارسه الدولة على مواطنيها ليس عجزها عن توفير الحياة الكريمة، وإعطاء الأمل لشبيبتها بإدماجهم في سوق العمل في مجتمع يكرّس العلم، ويمكّن منه الجميع بدون استثناء على قاعدة تساوي الفرص، فهذا بات معتادا، وإنما تحوّل تلك الدولة العاجزة عن تعميم قيم الحياة وتكريس المساواة الحقيقية وتوفير الحقوق والفرص حتى وفق القوانين التي ارتضتها لنفسها، تحوّلها إلى جهاز يضيّق سعة حياة الشباب اليائس "الحارق"، ويفاقم من آلامه وآهاته ومعاناته المتفاقمة بطبعها، ويعد عليهم حركاتهم وسكناتهم، ويمنعهم من حقّ الهجرة المنصوص عليه في النصوص الدينية والشرائع الإنسانية الكونية والمواثيق والمعاهدات الدولية، إلا متى كان ذلك على قاعدة القوانين التمييزية، المعمول بها وطنيا وخارجيا، وهي قوانين مجحفة آثمة انتقائية، تجتبي بعضهم على قاعدة حظوظ التميز العلمي والثروة المادية، وتترك الآخرين، لأنهم كانوا ضحايا النظام التعليمي الفاشل، أو التأطير الأسري والمجتمعي المفقود، أو الفقر الذي يقضم يوميا من الطبقات الوسطى لصالح الفئات المعدومة والمفقرة.
ومن مظاهر القهر الوطني أيضا أن تكتفي الدولة بوظيفة البوليس الذي يراقب الحدود، مانعا أن يجتازها الشباب "الحارق"، وهي في حقيقة الأمر تنفذ الاتفاقيات التي وقّعتها مع الحكومات 
الأوروبية، المدفوعة الأجر في شكل قروض وهبات وإعانات، فتحمي حدود تلك الدول. والأمرّ من ذلك كله أن تتحوّل تلك الرقابة إلى تتبع أمني وعسكري، قد يؤدي إلى الغرق والقتل الجماعي، مثلما هو الحال في حادثتي "حرّاقة" قرقنة ذائعتي الصيت التي قضى فيها عشرات من شباب مناطق الداخل التونسي، الفقيرة المهمشة، ومثيلات تلك الحادثة كثيرة، كان جديدها الموت الجماعي لمجموعة من شباب ولاية مدنين في خليج قابس، قضى فيها أكثر من عشرة شبان، ذنبهم الوحيد أنهم تحدّوا الدولة وقيادتها، واستهجنوا كذب الوعود الانتخابية للقائمين عليها من الأحزاب الحاكمة وجنانهم الموعودة، باحثين عن خلاصاتهم الفردية من وضع البؤس المادي والاجتماعي الذي وجدوا أنفسهم ضحايا له، فمارسوا "الحرقة" العلنية في وضح النهار.
وإنه لمن المشين أن يلقى بعض الشباب التونسي حتفه بصفة جماعية في أعماق البحر، بصفة تكاد تكون دورية، أو محتجزا في أحد مخيمات اللاجئين أو السجون الإيطالية، ومحاكمته وفق القوانين الأوروبية للهجرة الجائرة، كما حال المجموعة المعروفة ببحارة جرجيس، وأن يتم ذلك كله تحت يافطة النظام الديمقراطي، أو دولة الانتقال الديمقراطي، من دون تحميل حقيقي للمسؤوليات الحقيقية لمن كان سببا في هجرة الشباب التونسي وطنه، أو تهجيره قسريا ليتحول إلى قوة عمل وإنتاج في مجتمعاتٍ أخرى، بعد أن كان رصيدا لصالح البطالة والفقر والتهميش والجريمة في بلده. إنها مسؤولية الطبقة السياسية الحاكمة، فقد كان على هذه الطبقة إعطاء الآمال والبدائل التي تؤدي إلى اضمحلال ظاهرة "الحرقة"، بدلا من تعميق أسبابها، وتهيئة المناخات لانتشارها، وتوسع بُقع فعلها على قاعدة الكذب السياسي الموصوف الذي يمارسه بعضها ممن تولى أمر التونسيين، ولا يزال في هرم الحكم.