رسائل شارع في بيروت

رسائل شارع في بيروت

20 سبتمبر 2018
+ الخط -
تسأل أصدقاءَ قادمين من لبنان عن أحوالِه، فيُجمعون على أنه بخير، إذ يمشي القهقرى، بخطواتٍ واثقةٍ. لا تلحظ في أحاديثهم أن عدم تشكيل حكومةٍ جديدةٍ، منذ مايو/ أيار الماضي،  يقع في هذا القهقرى، فالأمر شديد العاديّة، وليس ثمّة حاجةٌ ملحّةٌ لحكومةٍ بديلةٍ عن التي تصرّف الأعمال حاليا، بل لا بأس من جولات التنازع الفلكلورية بين "الأفرقاء" (هذه تسميتهم هناك!) على حصص كلٍّ منهم من الوزراء في الحكومة العتيدة، إذ لا تثير اكتراثا بها، من فرط تقليديّتها، وتكرارها بعد مواسم انتخابيّةٍ سابقة. أما قصة انتظار سعد الحريري إيحاءً من الرياض ليُقْدم باتجاه تشكيلةٍ ما للحكومة، أو يُحجم عن ذلك، فأمرٌ يصلحُ للحكي في البرامج الحوارية في الفضائيات. ثمّة ما هو أقلّ ضجرا من هذا الكلام، وعلى شيءٍ من الجاذبية يمكن الانشداد إليه، ولو عَرضا، حتى تستجدّ حكاياتٌ أخرى بديلة. ولمّا صار العالم العربي يضجّ بأخبار الحروب الأهلية وجولات الاقتتال والمنازعات الداخلية والبيْنية، يصير نافلا انتباهُ الإعلام إلى الجاري في لبنان، من قبيل مناوشاتٍ كلاميةٍ عارضةٍ بين محازبي كل من الرئيس ميشال عون وقائد القوات اللبنانية، سمير جعجع، يرى بعضُهم فيها "تصدّعا مارونيا" في لبنان. كما أن فعلة محمد بن سلمان احتجاز سعد الحريري في الرياض ليس واردا أن يُبدع المستشار الألمعي، تامر السّبهان، واقعةً في منزلتها إثارةً ومؤانسةً. وسيما أيضا أن صحيفة الأخبار لا تزوّدنا بمحاضر تحقيقٍ في قضية المقدّم سوزان الحاج، المتهمة باقتراف الجريمة غير المنسيّة ضد المسرحي زياد عيتاني. 

وفيما الأخبار من لبنان على رتابتها منذ مدة، وعدمُ حلّ قضية النفايات المجمّعة ليس خبرا، يخترع حزب الله، وهو الرقم الأهم في المعادلة اللبنانية المرتجّة، ضد خصمٍ سياسيٍّ له، لونا من النكاية على قدرٍ وازنٍ من الجدّة، فيه كثيرٌ مما تحت الحزام وكثيرٌ مما فوقه أيضا، فيه دهاءٌ يشتمل على حزمةٍ من الرسائل غير الهيّنة الأبعاد والمضامين، بقصد تصعيدٍ يقول ببساطةٍ إن في جعبة حزب الله من سهام الردّ على مناهضيه ما يَضربهم بها من حيث لا يحتسبون. .. تذيع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، المعنيّة بملف اغتيال رفيق الحريري، اتهاما صريحا للقيادي الميداني في حزب الله، مصطفى بدر الدين، والذي قُتل في سورية سنة 2016، بضلوعه في تنفيذ جريمة ذلك الاغتيال قبل 13 عاما. ثم يتذكّر حزب الله مقاعده في مجلس بلديةٍ في بيروت، وأن هذا المجلس تقدّم، قبل أكثر من عام، إلى وزارة الداخلية والبلديات، بطلب أن يحمل شارعٌ في الطريق إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي اسم مصطفى بدر الدين. ولأن الوزارة لم تردّ على الطلب، موافقةً أو رفضا، يرى حزبُ الله هذا موافقةً ضمنيةً، فيُبادر إلى وضع لافتةٍ بالاسم الذي أراده للشارع، ثم لم يجد سعد الحريري غرضا لهذا التصرّف سوى الفتنة، فتعمل وزارة الداخلية والبلديات على منع تثبيت اسم بدر الدين، باعتباره غير قانوني، غير أن المجلس البلدي (المنتخب) يردّ بأن قرارَه "سليمٌ وشرعيٌّ ولا غُبار عليه".
ليس الخلاف فيما إذا كان ثمّة غبارٌ هنا أم لا، وإنما هو الدّهاء ظاهرٌ في توقيت ما أقدم عليه حزب الله، بواسطة أذرعته في المجلس البلدي هذا. وكان دهاءٌ ظاهرا أيضا قبل ذلك في اختيار الجادّة نفسِها، إذ تأخذ المارّين والعابرين فيها إلى مستشفىً يحمل اسم المقتول الذي يُتّهم صاحب اسم الشارع بقتله. وبعيدا عمّا قد يقرأه من إحالاتٍ وإيحاءاتٍ في هذا الأمر صاحبُ قريحةٍ وذو خيالٍ، فإن ما يريد حزب الله قوله، مجدّدا، بفائضٍ من الثقة، إنه غير معنيٍّ أبدا بالذي تفعله المحكمة الدولية، وإنه لا ينصتُ لمن يتحدّثون عن ضماناتٍ إجرائيةٍ وقانونيةٍ توفرها المحكمة للمتّهمين منها بارتكاب جريمة الاغتيال الشهيرة، من أجل الدفاع عن أنفسهم.
ليس مستبعدا أن تُطوى بسرعةٍ قصة اسم شارع مصطفى بدر الدين في الطريق إلى مستشفى رفيق الحريري، بابتداع تسويةٍ ما، غير أن المؤكّد أن نكايةً أخرى قد تُخترع بكيفيّةٍ ما، بعد أن تكون نكاية الشارع قد أوصلت رسائلها ومرموزاتها إلى كل من يهمّه الأمر، في لبنان والجوار والإقليم.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.