فن القبض على السلطة والثروة

فن القبض على السلطة والثروة

29 اغسطس 2018
+ الخط -
السياسة في المخيال الشعبي لدى العراقيين هذه الأيام ليست تولي أمور البلاد، وتدبير شؤونها، على نحو يخدم المواطن، ويعزّز موقع الدولة لديه، إنما هي "فن القبض على الغوايتين: السلطة والثروة، وتسخير كل الوسائل لخدمة الحاكم وأسرته وحزبه وطائفته أو عشيرته". ولذلك منذ ظهور النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية، وأفراد الطبقة السياسية من حاكمين ومعارضين يتصارعون في فضاء ملوث، صنعته "العملية السياسية" الطائفية، يقوم على أساس تبادل المنافع، واقتسام المواقع، فتراهم قائمين قاعدين، يقيمون الموائد ويعقدون الاجتماعات، وبعضهم يتنقل بين هذا الطرف وذاك، بحسب ما يتحقق له من ربحٍ أكثر. وفي مواقع التواصل، تقارير لا نعرف مدى دقتها عن مبالغ خيالية تُدفع لبعض من ينسحب من جهةٍ، أو يرتبط بجهةٍ أخرى، ووعود بعقود ومشاريع لهذا الطرف أو ذاك، والمحصلة من هذا كله أن "العملية السياسية" إياها باقية وتتمدّد، وأن "إعادة إنتاج" المشهد، وتدوير شخصياته الماثلة على المسرح، تتم على مدار الساعة وبنجاح تام، أما الوعود التي رافقت الانتخابات، أو التي أعطيت لشباب "الانتفاضة" بتحقيق مطالب معينة، فقد نسيها السياسيون المنشغلون بالقضايا الأكبر و"الكتلة الأكبر" التي سوف تقبض على الغوايتين: السلطة والثروة!
يجري ذلك بترتيب وتلفيق من ممثلي طرفي الهيمنة على العراق: الأميركي بريت ماكغورك والإيراني قاسم سليماني، فيما يسقط تحت خداع مخطط له بعض من يساريين ومدّعي يسار، وبعض من كانوا إلى حد قريب يزعمون سعيهم إلى تأسيس عملية سياسية وطنية خالصة، وإذ جد الجد، أخذ كل هؤلاء يتسابقون للحصول على ما يتبقى من كعكة الغوايتين، ولاستجداء ما تجود به هذه الكتلة أو تلك، ولسان حالهم يقول إن ما لم يدرك كله لا يترك بعضه.
لا سبيل أمام العراقيين، إذن، سوى الصبر الذي دونه صبر أيوب، فقد اشتدّت المواجع، وكثرت
 المصائب، إلى درجة أن مصيبةً تشتد، لكنها لا تنفرج، إنما لتلد مصيبة أخرى. ويعرف أجدادنا أن المصائب لا يأتين فرادى، إنما يأتين مجتمعاتٍ، وهذا ما يحدث في عراقنا اليوم، لكن الموت يظل واحدا، فمن لم يمت اغتيالا يمت في تفجير، ومن لم يمت من العطش سوف يموت بالماء الملوّث، ومصيبة أهل البصرة هي الأكثر فداحة هذه الأيام، وقد تصدّرت أخبارها "المانشيتات" العريضة: التلوث الكيماوي في مياه الشرب بلغ مائة بالمائة، هذا ما قالته دائرة صحة البصرة، وفي يوم واحد مات ثلاثون مواطنا جرّاء التلوث الذي أفرز إلى حد الساعة ستة آلاف إصابة. يحدث هذا كله وأفراد الطبقة السياسية منشغلون بالبحث في أمور الغوايتين.
وليس أكثر إمعانا في تجاهل المصيبة من محاولة وزير الموارد المائية، حسن الجنابي، تبرئة ساحته في دعوته إلى "التضامن والتعاطف مع مواطني البصرة الذين لا يحصلون على خدمات المياه، وهي حقٌّ بديهي من حقوق المواطنة"، باعترافه المعلن، مستخدما كلمة (البحبوحة) الرومانسية، لوصف "الفترات التي كان يمكن معها إنجاز محطة أو محطات تحلية كبيرة تخدم البصرة". وينطبق الوصف الذي أطلقه على فترة أكثر من عشر سنين، كانت الحكومات التي نصّبها المحتلون خلالها قد تحدثت عن مشاريع وهمية لتحديث البنية التحتية، وتوفير الماء والكهرباء وضروريات الحياة الأخرى، وأهدرت أكثر من ثمانمائة وخمسين مليارا من الدولارات، أو أدخلتها في جيوب من لهم حول وطول، وهي أموالٌ كان من الممكن أن تحول العراق، وليست البصرة وحدها، إلى جنة وارفة الظلال، ينعم فيها أهلها بالأمن والأمان، وتتوفر لهم الخدمات بأرقى مستوى، لكننا نحفظ للوزير كرمه في تقدير "حجم الغضب السائد لدى المواطنين"، ودعوته "المؤسسات المعنية إلى القيام بدورها كاملا"، ناسيا أو متناسيا أن وزارته هي المعنية الأولى بمسألة المياه!
ولو كانت مصيبة أهل البصرة هذه قد حدثت في أي بلد غير العراق، لهرعت الحكومة كلها إلى المدينة المنكوبة، ولأعلنت حالة طوارئ عاجلة، ولاستقال وزراء، وأحيل آخرون إلى القضاء.
وهكذا، فإن تجاهل حال البصرة وحال العراق كله على هذا النحو يؤكد انصراف الطبقة السياسية التي ابتليت البلاد بها إلى إعادة إنتاج "السياسة"، بمعناها الذي يرد في المخيال الشعبي على أنها "فن القبض على الغوايتين: السلطة والثروة، وتسخيرهما لخدمة الحاكم وأسرته وطائفته أو عشيرته". وهنا يصبح تغيير واقع الحال ليس مستبعدا فحسب، إنما صعبا وربما أقرب إلى المستحيل، وتلك مصيبة أخرى.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"