غرفُ النوم، مسرح الوجود

غرفُ النوم، مسرح الوجود

28 اغسطس 2018
+ الخط -
ما الذي ترويه لنا غرف النوم عن ماضيها وحاضرها، وهل هي فقط تلك الفضاءات المقفلة التي تخفينا عن أعين الآخرين؟ هذا هو أحد الأسئلة التي تسعى المؤرّخة والنسوية الفرنسية، ميشال بيرّو، إلى الردّ عليه في دراستها "تاريخ الغرف" (دار لوسوي، باريس)، حيث "تجسّد الغرفة صلات الزمان والمكان" وتخفي بين جنباتها وقائع متعدّدة المعاني والمستويات.
إلى جانب فصلين تاريخيين أوّلين، يشرحان كيف تحوّلت غرفة النوم إلى مكانٍ وازنٍ في البيت، يتألف الكتاب من عدة فصول متتالية، خُصّص كلٌّ منها لنوعٍ معين من الغرف. هناك أولا غرفة الملك (لويس الرابع عشر)، مركز قصر فرساي حيث كان الملك، ومنذ لحظة استيقاظه، يجد نفسه محاطا بأعوانه من الوزراء والنبلاء والخدم، ثم غرف السيدات بدءا بالحريم، مرورا بالنبيلات ومرافقات الملكة، وصولا إلى الوصيفات، ثم غرفة الطفل، ثم غرفة الفندق، تليها غرف العمّال، زنازين السجون، غرف المرضى، انتهاءً بما سمّته المؤلّفة "الغرف العابرة"، وبفصل أخيرٍ يحكي مصير الغرف في زمننا المعاصر، وقد بنيت بهدف أن تكون فضاءً للقاء الذات، بعيدا عن الآخرين، وإذ بها تتحوّل مكانا للوحدة والعزلة والإقصاء.
أيضا تروي المؤلّفة من خلال أسلوب ذاتيّ، لا يمانع في استحضار ذكرياتها الشخصية، الأسباب التي دفعتها إلى كتابة عملها هذا، حيث تذكر جدّتها التي قلّما كانت تلجأ إلى غرفتها، وتفضل المطبخ على بقية أجزاء البيت، معتبرةً أن تاريخ الغرف هو أيضا تاريخ النساء، إذ تشكّل الغرفة بنظرها "فضاء النساء بامتياز". فهنّ لطالما حُبسن فيها، بحيث تمكّن بعضٌ منهن من تحويل المكان إلى مصدر حيّ للإلهام، كما تشير إليه فرجينيا وولف في "غرفة لي": "لقد بقيت النساء أسيرات منازلهن آلاف السنين، بحيث إن الجدران نفسها قد تشبّعت بقوتهن الإبداعية". وتذكر الكاتبة مثالا الشاعرة إميلي ديكنسون التي رفضت مغادرة غرفة والديْها، وهو ما لا يتطابق مع وضع ملايين أخريات، وبالتحديد العاملات وغرفهن الضيقة البائسة التي جاءت ثمرة العصر الصناعي، أو الخادمات وغرفهن التي فوق السطوح، أو غرف بيوت الدعارة، إلخ.
في الفصل المتعلّق بغرف الأطفال، تشير المؤرّخة إلى أن هذه الأخيرة ظهرت بشكل تدريجي في العصر الكلاسيكي، ففي فرساي مثلا، تمّ تخصيص جناح كامل لذرّية الملك لويس الرابع عشر، الشرعية منها وغير الشرعية، لكثرتها. غير أن الأطفال عامة، وكما هو معلوم، استمروا يشاطرون الأهل غرفهم، لا بل أسرّتهم، إلى وقتٍ متقدّمٍ من القرن التاسع عشر.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن الكاتبة تلجأ، في عملها الذي يمزج ما بين بحث تاريخي وبحث اجتماعي وبحث أدبي، إلى استخدام مراجع من الماضي والحاضر، مع الخلط بين الخاص والعام، الخيالي والواقعي، وصولا إلى الإفادة من الرواية أيضا مصدرا تاريخيا، ففي الفصل الذي يحمل عنوان "فضاء مغلق"، كما في كامل الكتاب، يحضر ذكر الأديب الفرنسي، مرسيل بروست، الذي حوّل غرفته وسريره إلى فضاء للإبداع والكتابة، هو الذي ألّف داخل جدرانها تحفته الأدبية "بحثا عن الزمن الضائع".
الطرق المؤدية إلى غرف النوم كثيرة: السبات، الحبّ، الصلاة، التأمل، الجنس، القراءة، الانعزال المرغوب أو المفروض. من المهد إلى اللحد، الغرف هي مسرح الوجود، نوافذ على اللاوعي، وملعب للأحلام والأفكار، حيث نمضي زهاء نصف حيواتنا. إنها صندوق أسرارنا، ومستودع ذكرياتنا وفضاء عزلتنا ولقائنا، وهي أيضا تلك العلب المغلقة مع أرضية وجدران وسقف، يتبدّل أثاثها وديكورها باختلاف الحقب والعصور. ولا ننسى النافذة مفتوحةً على الخارج أو الداخل، على الروح والهواجس والآمال والخيبات.
تبقى أخيرا تلك الغرف المتوحّدة، صومعة الراهب، زنزانة الحبس، وغرفة الأديب...
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"