تفتيت الموقف الفلسطيني.. المسؤولية والتداعيات

تفتيت الموقف الفلسطيني.. المسؤولية والتداعيات

24 اغسطس 2018
+ الخط -
ينتهي المتابع للشأن الداخلي الفلسطيني إلى نتيجة واحدة: ثَمَّةَ اجترار لسيرورة ومنظومة العبث ومسار التيه والتخبّط، ولا يبدو أن في الأفق مخرجاً ولا حلاً. منذ عام 2006، وإجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي فازت فيها حركة حماس، تحوّل التناقض من تناقض فلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي إلى تناقض فلسطيني - فلسطيني. لا يعني هذا أنه لم تكن هناك مؤشراتٌ على أن التناقض أصبح داخليا، قبل ذلك بسنين طوال، وتحديدا منذ اتفاق أوسلو عام 1993، ودخول قوات أمن السلطة الفلسطينية، عام 1994، إلى مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه لم يعبر يوماً عن وجهه الأبشع، كما عبر عنه منذ عام 2006 فصعوداً. مثّلت خطيئة أوسلو، ولا تزال، خنجرا مسموما في الخاصرة الفلسطينية، إذ أنشأت سلطةً تقوم بمهمات الاحتلال القذرة، خصوصا أمنيا. وسواء، من حيث أدركت قيادة حركة فتح، ومنظمة التحرير، أم من حيث لم تدرك، تحولت تلك السلطة، بحكم الأمر الواقع، إلى امتداد للاحتلال الصهيوني، أمنيا واقتصاديا وسياسيا. بل ميّع ذلك المشروع القضية الفلسطينية، ونزع دسمها كليا، وألغى مفهوم الحق الفلسطيني الجَمَعِيِّ، وها هو عرّاب أوسلو، الرئيس محمود عباس، نفسه، يعلن هذه الحقيقة في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني، في يناير/ كانون الثاني الماضي: "إننا سلطة من دون سلطة، وتحت احتلال من دون كلفة".
كان ذلك اعترافا متأخّرا من عباس. ولكن ماذا تغير في سلوك سلطته ومقارباتها منذئذ؟ لا 
شيء جوهريا، وإنما مزيد من الإضعاف الذاتي للجسد والممانعة الفلسطينيين. في يناير/ كانون الثاني الماضي، أمر عباس بعقد الدورة الثامنة والعشرين للمجلس المركزي الفلسطيني في رام الله، رداً على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل ذلك بشهر، إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، لكن عباس الذي أعلن رفضه ما تُعرف بـ"صفقة القرن" لم يبحث حينها عن توافق فلسطيني لمواجهة المؤامرات الإقليمية والدولية على القضية الفلسطينية، حيث أصرّ على عقد دورة المجلس في رام الله، أي تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي، وهاجم من اعترض من الفصائل الفلسطينية على ذلك، وغاب عن تلك الدورة. لم تمض ثلاثة أشهر، إلا وكان عباس يمارس عبثا آخر، حيث عقد الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في نيسان/ أبريل الماضي، ومرة أخرى لم يبحث عباس عن توافقات فلسطينية، وضرب عرض الحائط بكل تحفّظات فصائل وشخصيات اعتبارية فلسطينية على عقد الاجتماع في رام الله. الأدهى أن عضوية المجلس الوطني كانت تعيينات أنعم بها عباس على من يؤيده ولا يعارضه. ولكن عبث عباس لا يعرف حدودا يقف عندها، ففي حين يصرخ محذّرا من مؤامرة كبرى على فلسطين، تشارك فيها أطراف فلسطينية وعربية، فإنه لا يتورع أبدا أن يسهل أهداف من يتآمر. تكفي هنا الإشارة إلى عقده دورة جديدة للمجلس المركزي الفلسطيني، وفي رام الله، قبل أقل من أسبوعين، غير عابئ بمعارضة قوى فلسطينية ومقاطعتها، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، وحركة المبادرة الوطنية. بمعنى آخر، لم تقتصر المقاطعة، هذه المرة، على حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
من أراد دليلا على أن القيادة الرسمية الفلسطينية تتخبّط، ولا تملك رؤية ولا مشروعا، ولا حتى جرأةً على الاعتراف بالفشل، فضلا عن عجزها عن الدوْس على الكوابح، لوقف مسار الانحدار السريع فلسطينياً، فيكفيه أن ينظر إلى القرارات الصادرة عن اجتماعات المركزي أخيرا. على سبيل المثال، تأمل الفقرة التالية من البيان الختامي: "وأقرّ المجلس المركزي التوصيات المقدمة له من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بتنفيذ قرارات المجلس الوطني وتقديم مشروع متكامل مع جداول زمنية محدّدة يتضمن تحديد شامل للعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع سلطة الاحتلال إسرائيل، وبما يشمل تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، والانفكاك الاقتصادي على اعتبار أن المرحلة الانتقالية، وبما فيها اتفاق باريس، لم تعد قائمة، وعلى أساس تحديد ركائز وخطوات عملية للبدء في عملية الانتقال من مرحلة السلطة إلى تجسيد استقلال الدولة ذات السيادة".
المفارقة الأولى في الفقرة أن المجلس نفسه كان قد أصدر قرارا، في دورته المنعقدة في يناير/ كانون الثاني الماضي، بوقف التنسيق الأمني بكل أشكاله مع إسرائيل، وقبل ذلك كان أصدر قرارا مماثلا في مارس/ آذار 2015 بإنهاء التعاون الأمني معها، لكن شيئا من ذلك لم ينفذ. ما الذي سيتغير اليوم!؟ لا شيء. أما مسألة تعليق الاعتراف بإسرائيل والانفكاك الاقتصادي والسياسي عنها فملهاة أخرى، لا أفق لها، ذلك أن قرارات دورة المجلس المركزي السابقة شملت المعطيات نفسها، ولم يقع شيء من ذلك، ولن يقع.
تتمثل المفارقة الثانية في أن النقطة السابقة في البيان جاءت بصيغة: "وأقرّ المجلس المركزي التوصيات المقدمة له من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية"، في حين أن النقطة نفسها في البيان الختامي للمجلس نفسه في دورته قبل الأخيرة، في يناير/ كانون الثاني 2018، جاءت بصيغة: "2. تكليف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود عام 1967 وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان. 3. يجدّد المجلس المركزي قراره بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، وبالانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية التي كرسها اتفاق باريس الاقتصادي، وذلك لتحقيق استقلال الاقتصاد الوطني، والطلب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومؤسسات دولة فلسطين البدء في تنفيذ ذلك". إذن، من يقرّر لمن ومن يوصي من؟ أم أنها سياسة الباب الدوار للتهرّب من المسؤولية، وتفعيل قرارات الحبر على الورق؟
المفارقة الثالثة، والأهم، ما جاء في بيان اجتماع المجلس المركزي أخيرا: "رفضه الكامل للمشاريع المشبوهة الهادفة إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، بما فيها عاصمتنا الأبدية القدس الشرقية، على اعتبار ذلك جزءا من صفقة القرن". وأضاف: "ويؤكد المجلس المركزي أن التهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية وطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها 
الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وليس عملا فصائليا، كما تم في المفاوضات غير المباشرة الفلسطينية الإسرائيلية عام 2014 وفقاً للمبادرة المصرية لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أو اقتراح مشاريع إنسانية وموانئ ومطارات خارج حدود دولة فلسطين، وذلك لتكريس تدمير المشروع الوطني، وتصفية القضية الفلسطينية، والتأكيد أن لا دولة في قطاع غزة ولا دولة من دون قطاع غزة". أبعد من ذلك: "وطالب المجلس المركزي بالإلغاء الفوري للإجراءات التي اتخذت بشأن رواتب واستحقاقات موظفي قطاع غزة، ومعاملتهم أسوة بباقي موظفي السلطة الفلسطينية".
المشكلة هنا أن المجلس كان طالب في دورته قبل الأخيرة برفع العقوبات الفلسطينية الرسمية عن قطاع غزة، ولم ترفع، وبقي الحصار الذي تمارسه سلطة عباس على القطاع هو الأشرس، مقارنةً مع نظيريه، الإسرائيلي والمصري. الأمر الثاني أن من يدفع باتجاه انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية هو من يرفض رفع العقوبات، وتمكين "حكومة الوفاق الوطني" من ممارسة صلاحياتها في القطاع. وكان عباس قد صرح، قبل أسبوع: "أبلغت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في آخر لقاء كان بيني وبينه في الظهران، إما أن نستلم السلطة كما هي في غزة وفي الضفة دولة واحدة، نظام واحد، قانون واحد، سلاح واحد، أو هم من يستلمون (حماس)". ولكن كيف يمكن أن يكون هناك "دولة واحدة، نظام واحد، قانون واحد، سلاح واحد" وعباس يرفض إلى اليوم إصلاح منظمة التحرير لتصبح ممثلة للكل الفلسطيني، كما اتفق عامي 2005 و2017، في القاهرة وبيروت؟ وكيف يمكن أن تكون هناك دولة واحدة، وقيادته لم تنفذ قرارات المجلسين، الوطني والمركزي، الخاضعين له، بإعلانها؟ وكيف يمكن أن يكون هناك سلاح واحد، وهو نفسه، والسلطة والمنظمة، اللتان هما تحت قيادته، يقرّون أن ثمّة تنسيقا أمنيا مع إسرائيل لا يزال قائما، لا بل ويتم إهمال قرارات المجلسين، الوطني والمركزي، و"توصيات" اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لوقفه؟ أيّ منطق هذا؟ ثمّة غياب للبوصلة عند القيادة الرسمية الفلسطينية، ثمَّ هي تطالب الجميع بالثقة بها واتباعها، وهي نفسها تشكو العمى.
باختصار، أخطر بنود "صفقة القرن"، غير المعلنة بعد، هو تفتيت الموقف الفلسطيني، واختزاله في مناطق ومطالب إنسانية واقتصادية وسياسية هامشية. السلطة الفلسطينية تفاوض على سلطة محدودة في بعض الضفة الغربية، و"حماس" تفاوض على تهدئة في قطاع غزة، في حين لم يبق لفلسطين وقضيتها وشعبها صوتٌ يطالب بحقوقهم.