"الموتى بلا قبور"

"الموتى بلا قبور"

31 يوليو 2018
+ الخط -
منذ فترة، وأنا أغضّ النظر عن الأخبار القادمة من سورية. حتى حوارات أصدقائي السوريين ونقاشاتهم خلال السهرات، في السياسة ومستقبل البلاد والمؤامرات الدولية، لم أعد أحتملها. أفتح عينيّ على اتسّاعهما كأني مهتمة، لكني في السرّ أتقصّد ألا أهتم. أنسحب بعيدا مغلقةً بوابات دماغي، كي لا تتسلل إليها كل تلك الأوبئة والآفات. هناك قدرة معينة على الاحتمال، ومنذ حين، قد استهلكتها قدرتي تلك. أنا لا أريد أن أتلفّظ حتى بما يُطبق على صدري، أن أسمّي ما يخطر في بالي من صور ومشاهد، لأنها من النوع الذي لا يعبر، بل يقيم. أنا من الذين لا تغادرهم الأهوالُ بسرعة، بل تبقى تحفر في أرواحهم، حتى تجد لها مستقرّا دفينا من حيث يمكنها ضخّ سمّها قرونا.
تضع ابنتي التلفزيون على برامج الصور المتحرّكة، وتصل إلي ضحكاتها من الغرفة، فأحسّ بشيءٍ من الطمأنينة. أحيانا أعاندها، وأطالب بحصتي من الأخبار، ثم سريعا ما أندم وأُسلم لها الريموت كونترول. ما الذي يدور ولا أعرفه. أي انقلابٍ تاريخي جرى بين الأمس واليوم؟ غالبا أفكّر في تلك الأفلام التي تصوّر لحظة انتهاء الحرب. هي لحظةٌ لا أكثر، يعلن فيها المذياع الأمر، فتتراكض الناس في الشوارع، وهي تتعانق مبتهجة. لمَ لا تصل إلينا مثل هذه الأخبار، لمَ لا تأتي لحظةٌ بعينها تنتهي كل حروبنا، فنتراكض لنرقص في الشوارع. هذه اللحظة لن تأتي ولن يخبرني بها أحد.
أنا من الذين تقيم فيهم الأهوال ولا تبارح. منذ حرب لبنان، منذ فلسطين، منذ العراق، منذ سورية، منذ اليمن، منذ سورية، منذ سورية، منذ مصرع كل هذا الكم من الأطفال. لا أدري كيف غدرني أمس خبر وفاة ألف شاب من داريا تحت التعذيب، وتسلّل إلى يومي. كنت هانئة بعزلتي، أنتقل من غرفتي إلى شرفتي شاعرةً أني قطعتُ نصفَ كَوْني. لا أريد لكوني أن يكون أكبر. أهتم بنباتاتي وأفرح برائحة ياسمينتي الشامية. لكن الخبر تسلل وسمّم نهاري. دائرة النفوس في ريف دمشق سلّمت قائمة جديدة بأسماء المعتقلين من أبناء مدينة داريا، موضحة أن دوائر النفوس بدأت بتدوين وفاتهم على أنظمتها الإلكترونية. بهذه البساطة، وهذه الحرفية والإتقان، بهذه الفعالية. ولمن يريد الاستفسار عن أسباب الوفاة، فهي واحدة: سكتات قلبية وما شابهها من اعتلالات صحية تصيب الشبان بشكل عام.
ألف عائلة تبلّغ بوفاة ألف أسير من أبنائها. ألف والدٍ يعرف أن ابنه قضى تعذيبا وقتلا، وعليه ببساطة أن يذهب إلى دائرة النفوس لكي يسحب شهادة وفاته. ميكانيكا الدولة تعمل بأفضل ما يكون، الموظفون ناشطون ساهرون على راحة العائلات المفجوعة. لن نتركهم من دون خبر عن أطفالهم بعد الآن. حرام، لا يجوز. لن يختفي أحدٌ في أقبية الأفرع الأمنية، وسنعلن تباعا عن كل قتيل نُسقطه. نحن، كما تعرفون، لم نعد نخشى شيئا ولا أحدا. لذا، لن نطيل عذابات الأهالي المساكين، فما ذنبهم إن كان أبناؤهم عاقين، مخرّبين، إرهابيين، ثائرين.
عبر جدار الصديق أحمد بيضون، (فيسبوك)، وردني خبر الألف. "كيفَ يواصلُ حياتَه من يتقَبَّلُ، بأيّةِ ذريعةٍ كانت، مصرعَ أَلْفِ شابٍّ من مدينةِ داريّا الصغيرةِ تحتَ التعذيبِ في أقبيةِ معتَقلاتِ الموتِ الأسديةِ وباحاتِها المغلَقة؟"... "الثَورةُ السوريةُ، لمن لا يزال يجرُؤُ على الشكّ في حصولِها، هي أولئكَ (الموتى بلا قبورٍ) الذين يُدْعى ذَووهُم الْيَوْمَ إلى المصادقةِ على شطْبِهم من جدولِ الحياة. فكيفَ سيواصلُ حياتَه من ظنَّ أنّه يحميها أو يبنيها بدماءِ هؤلاء الشبّانِ وعذابِ ذويهِم؟ كيف يبتسمُ هذا البَشَريُّ لأطفالِهِ أو يضاحِكُ زَوْجَه؟ أيّةُ حياةٍ وأيّةُ طوائفَ وأيّةُ دولٍ تَسْتأهلُ الضلوعَ في هذا العار التاريخيّ أو تَقَبُّل وَصْمَتِه؟".
فعلا، إنهم "الموتى بلا قبور"، هائمون فوق سماوات قراهم المحروقة، علّ التربة تفسح لهم فيستريحون.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"