ترامب وألمانيا والعرب

ترامب وألمانيا والعرب

11 يوليو 2018
+ الخط -
تعيش أوروبا، بقيادة ألمانيا، هذه الأيام، أحلك أوقاتها. تبدو هذا الأسبوع، وهي تستعد لزيارة دونالد ترامب، الذي يمر بها في طريقه إلى هلسنكي للقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وكأنها تستقبل "هادم اللذات" و"مفرّق الجماعات". يذكّرها ترامب بالطاعون أو "الموت الأسود" الذي درج على زيارتها بين حين وآخر في عصورها الظلماء، تاركا وراءه الموت والخراب. كيف لا وهو يهدّدها في أمنها وعيشها وطريقة حياتها.
قبل وصوله إليها، أطلق ترامب سلسلة تغريدات عدائية، خصّ بها مستشارة ألمانيا، لأسباب عديدة، ليس آخرها أنها كانت أقرب الزعماء الأوروبيين إلى سلفه، باراك أوباما، فكراً وسياسة. ألمانيا باتت اليوم مقتنعةً بأن ترامب لن يقبل إذا طالت إقامته رئيساً بأقل من تفكيك اتحادها الأوروبي الذي تحرص عليه حرص الأم على وليدها، وهو يهاجمه في نقاط ضعفه الثلاث (الأمن، التجارة، والهجرة).
عشية انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بلجيكا اليوم (الأربعاء)، هدّد ترامب بإدارة ظهره للحلف الذي مثل حلاً جوهريا لمعضلة أوروبا الأمنية بعد الحرب العالمية الثانية، إذا لم يستجب زعماؤها لدعواته إلى دفع تكاليف حمايتهم أمنياً. حجة ترامب في إطلاق تهديداته بتفكيك مظلة الأمن الجماعي الغربية الكبرى أن بلاده تتحمل العبء الأكبر من موازنة الحلف، فيما ينعم أعضاؤه الأوروبيون بأنظمة صحية وتعليمية وضمان اجتماعي وبنية تحتية أفضل من الموجودة في الولايات المتحدة. إذا تفكك "الناتو"، فهذا يعني ببساطة نهاية عصر السلام الأوروبي، عودة دول أوروبا إلى نشدان أمنها بصورة فردية، وترك القارة مكشوفةً أمام الروس المتحفزين.
قبل وصوله إلى أوروبا أيضًا، وجّه ترامب ضربة موجعة إلى الركن الآخر من أركان الاستقرار الأوروبي (التجارة الحرة)، عندما فرض الشهر الماضي رسوما حمائيةً على واردات الصلب والألمنيوم الأوروبية، وهو يهدّد الآن بفرض رسومٍ مماثلةٍ على السيارات. يستهدف هذا الإجراء ألمانيا أكثر من غيرها، وهي التي صدرت إلى أميركا أكثر من 650 ألف سيارة العام الماضي. وكان ترامب أخبر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال لقائه به في واشنطن أخيرا، أنه يرغب في منع سيارات مرسيدس بنز من السير في الجادّة الخامسة في نيويورك. هذا يعني ضرب الاقتصاد الألماني الذي تشكل الصادرات 46% من حجمه الكلي، في مقتل، وترك تداعياتٍ سياسيةً واجتماعيةً كبرى، تنعش حظوظ الأحزاب اليمينية الساعية إلى فرط الوحدة الأوروبية.
لم يف هذا كله، إذ وجه ترامب، في الأسابيع الأخيرة، انتقادات شديدة لسياسات الهجرة، الألمانية تحديدا، معتبراً أنها مسؤولة عن ارتفاع نسب الجريمة والإرهاب في القارة الأوروبية. وقد شجّعت هذه الانتقادات دولا في أوروبا الشرقية، وحتى حلفاء ميركل، في حكومتها الائتلافية، على أخذ مواقف متشدّدة من قضايا الهجرة واللجوء، حتى كادت الحكومة تنهار بسبب ذلك.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أخذ ترامب يعتمد، في محاولاته تطويق ألمانيا، وإضعاف قيادتها الأوروبية بشكل متزايد، على دول أوروبا الشرقية، خصوصا بولندا والمجر، حيث تحكم أحزاب يمينية متطرّفة، راحت تتحدّى سياسات ألمانيا بقوة في السنوات الأخيرة. هذه هي الدول نفسها التي اجتهدت ألمانيا في ضمها إلى الاتحاد الأوروبي، بعد انتهاء الحرب الباردة، ضد رغبات دول أوروبا المتوسطية التي كانت تفضل التوجه جنوبا، وإقامة شراكةٍ عبر المتوسط مع دول شمال أفريقيا وشرق المتوسط العربية. لو أن ألمانيا سمحت بالذهاب جنوبا، عوضا عن التوجه شرقا، لحلت مشكلات كثيرة تواجهها وأوروبا والعرب معًا. فلدى العرب كل الطاقة التي تحتاجها أوروبا من النفط والغاز إلى الشمس، فضلا عن القوة العاملة البشرية الشابة، فيما تملك أوروبا التكنولوجيا والإدارة والتنظيم الفعال. ولو قامت شراكة أوروبية – عربية، لكانت أوروبا تحرّرت من الابتزاز الطاقوي الروسي، وحلت مشكلة الهجرة، بإقامة مشاريع تنمية عملاقة في الدول العربية، تخلق فرص عمل تغني الشباب عن الهجرة، ولتحول العالم العربي، مع ارتفاع مستوى معيشته، إلى سوق كبيرة للبضائع الألمانية فائقة التقنية، ولكانت ظاهرة التطرّف والإرهاب انتهت أيضا مع تشجيع أوروبا لبناء ديمقراطياتٍ حقيقية في المنطقة العربية، كما فعلت في شرق أوروبا. صوتت ألمانيا ضد هذا التوجه، ولو فعلت غير ذلك، لأغلقت الأبواب في وجه ترامب وبوتين معاً، لكن "لو" تفتح عمل الشيطان.