آلة الذاكرة

آلة الذاكرة

02 يوليو 2018

(مروان قصاب)

+ الخط -
سمعت رجلاً يقول: تظنون أن الذاكرة هي الماضي فحسب! هذا خطأ. إنها الحاضر أيضاً. فأيدته امرأةٌ ذات نبرةٍ أكاديمية صارمة: بالتأكيد. الكلمات التي نطقتها أنت، الآن، لم تعد تنتمي للحاضر، بل إلى الماضي. هناك من سيتذكرها من المستمعين، وهناك من سينساها. كلماتي هذه ستكون، أيضاً، بعد ثوانٍ قليلة من الماضي، وستستقر في ذاكرة شخصٍ ما.
كنت أنا الشخص الذي استقرت في ذاكرته تلك الكلمات التي سمعتها من راديو سيارتي، ذي البث المتقطع على الطريق السريعة، عائداً إلى البيت. لم أعرف أسماء المشاركين في البرنامج الإذاعي الذي كان في منتصفه، تقريباً، عندما أدرت مفتاح سيارتي، وانطلق صوت الراديو. لكن النقاش الذي أثار فيَّ فضولاً وأشجاناً استمر متراوحا بين العلم والأدب، الألم والنجوى. أظن أن المذيع هو الذي نسب إلى ألدوس هيكسلي قوله: الذاكرة هي المدونة الأدبية الكبرى للبشرية، أو شيء من هذا القبيل. فأضافت المرأة ذات النبرة الأكاديمية: كل كتابةٍ هي فعل ذاكرة، حتى التي تلهج بالمستقبلية. حتى عندما نتصور المستقبل ونكتبُه، أو نرسمُه، إنما نفعل ذلك بأدوات الماضي وخياله. تدخَّل شخصٌ له صوتٌ يشدِّدُ على الكلمات، كأنه يهرسها هرساً، صوت، أو طريقة في الكلام ذكّرتني بشاعرٍ أشاد مدفناً زجاجياً لأشباح حياته، قائلاً: إنها جهاز شديد التعقيد، أقصد الذاكرة. تصوّروا أن فعلاً بسيطاً مثل رفع "شاكوش" من فوق طاولة، مثلاً، يستدعي عملياتٍ متضافرةً بين جوانب متعددة من الدماغ. فاسم الأداة، كلفظ، ككلمة، في جهةٍ من الدماغ، صورتها في جهةٍ أخرى، رفع الأداة يصدر بأمر دماغي مختلف، يحدث ذلك كله، في اللحظة نفسها، في دماغنا عندما نقوم بفعل بسيط كهذا، فلو لم تكن لدينا ذاكرة لما استطعنا رفع "شاكوش" من على منضدة!
صار النقاش حارّاً محتدماً، واختلطت أصوات المشاركين بعضها ببعض، فقاطعت المرأة ذات النبرة الأكاديمية "رجل الشاكوش"، وهي عادة غير مستحبة في هذه البلاد، قائلة: من دون ذاكرة، نكون كأننا نولد كل لحظة من جديد. نولد كصفحة بيضاء. حاول المذيع الذي حزرتُ موقعه في النقاش من خلال فضّه للاشتباك، وتسنمه زمام القيادة المنتزعة منه عنوة، أن يعود بالنقاش إلى الذاكرة والاجتماع، وهو، على ما يبدو، كان بداية الحديث الذي فاتني، فقال: هل ينطوي عمل الذاكرة على ما هو اجتماعي.. ثم أضاف: دعوني أحدّد سؤالي أكثر: تعرفون، بالطبع، أننا نلجأ، أحيانا، إلى الأهل أو الأصدقاء، لنتأكد من حادثةٍ ما. هذا يعني أن الذاكرة ليست شيئاً فردياً، بل لعلها معادلة اجتماعية لا تكتمل إلا بوجودٍ آخر. إنها، بهذا المعنى، أرضٌ مشتركة بين كثيرين. تذكّرت أمي التي كان يلجأ إليها أقاربنا الساهرون في بيتنا، عندما يختلفون على موقع أو شخوص حادثةٍ تخصّهم، أو تخص محيطنا القرابي الواسع. كانت أمي تعيد، بإغماضة عين، رسم الموقع وتحديد أسماء الأشخاص، كما لو أن الحادثة، المختلف عليها، تجري أمامها. هذا ما سمّاه أحد المشاركين في البرنامج الإذاعي "الذاكرة الفوتوغرافية". ثم تذكّرت أبي الذي ينسى ما تعشى يوم أمس، ولا أعرف كيف أترجم معنى المصطلح الذي قيل في هذه الحالة، فقد كانت له نكهةٌ لاتينيةٌ، وربما إغريقيةٌ مستعصية.
لم يتفق المشاركون في البرنامج الإذاعي على البعد الاجتماعي للذاكرة، ولا على تحديد تعريفٍ لها، فهي أكثر من وعاء لخبرات الماضي، أو مخزن للحفظ، أو أداة استدعاء للثاوي في تلافيف غامضة، جاهزة للاستخدام في كل حين. كان بين المتحدثين شاعر، لأن المذيع سأل شخصاً لم يتكلم كثيراً حتى الآن، قائلا: وصفك بعض نقادك أنك "شاعر حنين".. يعني شاعر ذاكرة، هل يزعجك هذا الوصف؟
أبدى الشاعر تبرّماً من الوصف. كان كأنه يدفع تهمةً عن نفسه. كأن كلمة "حنين" أصابت منه مقتلا، أو كأنها حطّت من قيمة عمله الشعري، وربطته بعاطفةٍ طالما حاول تجنبها أو إخفاءها. فقال ما معناه: الذين يرون قصيدتي مغمورةً بالحنين يريدون ربطي بوثاق الماضي، أو القول إن قصيدتي وكتابتي لا تفعلان شيئا سوى النبش في طيات ذلك الماضي، وتقليبه على وجوهه، باعتباري أسيرهما المقيم. أن تكون شاعر حنين يختلف عن أن تكون شاعرا يعيش في الماضي فقط..
واضح أن شاعر البرنامج الإذاعي كان منزعجا من رأي نقاده الذين اعتبروا عمل الذاكرة في شعره "عيشا" في الماضي، وإقامةً مؤبدة فيه. ولعلهم لم يدركوا أن الماضي أقرب إلينا من حبل الوريد، لأن الماضي هو اللحظة التي تمضي، وأنا أكتب فيها هذه الكلمات، مثلما قالت المرأة ذات النبرة الأكاديمية، إنه عقرب الساعة الذي يترك خلفه الثواني والدقائق، بصورها وروائحها وأصواتها المفقودة، متقدّماً، بلا إبطاء، بلا رحمة، إلى الأمام.
كان الشاعر هو الذي ختم البرنامج الإذاعي بكلماته التي تكتم غضباً، أو غصّة، حيال ما سمّاه "سوء القراءة" المتفشّي في الساحة الأدبية، وسرعة إطلاق الاحكام واستسهالها، فقال: معظم الأفعال البشرية الكبرى، أو الصغرى، هي ابنة ماضٍ ما، فالماضي أكثر الأزمنة يقينا في ذاكرتنا، وهو الذي نعرفه أكثر من غيره. قد يكون الماضي المتصل هو الذي يغري شهوة الكتابة عندي، وهو، على كل حال، وعلى الرغم من معرفتنا به، لا يقل غموضا والتباسا عن الحاضر.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن