ثقافة الأصفار

ثقافة الأصفار

25 يونيو 2018
+ الخط -
خسرت مصر في عام 2004 المنافسة على تنظيم كأس العالم عام 2010 بالحصول على صفر أصوات، وظفرت بالتنظيم جنوب أفريقيا، واشتهرت تلك الواقعة باسم "صفر المونديال".
بعد 15 عاماً، يبدو أن الصفر صار ثقافةً في مصر، أو بالأحرى صارت "الصفرية" أسلوب حياة. ولم تعد تقتصر على الرياضة، بل راحت تتغلغل في مختلف مناحي الحياة. سواء على مستوى السياسات والقرارات، أو على مستوى المجتمع والسلوكيات. تدنت الأخلاق وتراجع الفن وفسدت القيم وفشلت السياسات، وكادت المنظومة المجتمعية والدولتية تلامس الأرض هبوطاً وتعثراً. عقدان من الإخفاق، القارّي والعالمي، في كل اللعبات الجماعية والفردية، عدا استثناءات لها خصوصيتها مثل عائلة الشربيني في الإسكواش ومنتخب حسن شحاتة في كرة القدم. ولا حاجة لذكر سلسلة الهزائم الرياضية والنكسات الفنية والإخفاقات الإدارية والسياسية والأزمات الاقتصادية التي مرت بها مصر، وبالطبع لا تزال. وليست المعضلة فقط في تردي النتائج وتدهور الأوضاع بشكل عام. بل في القناعة إلى درجة التمتع بالوقوف عند مستوى الصفر أو أعلى بقليل في الحد الأقصى. مع كل تحدٍّ أو مسابقة أو اختبار أو أزمة، يبدأ سقف الطموحات والآمال من مستوى خيالي، منفصل عن الواقع والقدرات الفعلية، قبل أن يتهدّم هذا السقف كاشفاً عن صفرية في التخطيط وصفرية الاستعداد وصفرية التنفيذ وصفرية المتابعة وصفرية المراقبة، وبالضرورة طبعاً صفرية المحاسبة. وقبل ذلك كله، هناك صفرية العقلية الرابضة وراء كل هذه الأصفار المتضافرة.
تلك العقلية التي ترفع سقف التوقعات وتعتمد على النيات، ولا تهتم بجودة العمل، ولا استيفاء مقوماته. تؤجل العمل المطلوب حتى اللحظات الأخيرة، ولا تصبر على عملٍ حتى نهايته، فتُنهيه مُبكراً، في لحظاته الأخيرة أيضاً، فعقلية الصفر لا تلتفت إلى الوقت، فكل شيء لديها متأخر عن موعده، بسبب أو بغير سبب. والتبرير حاضر دائماً "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي أبدا".
ولأن قيمة الوقت منتفية من قاموسنا الصفري، فإننا لا نحسن الاحتفاظ بالانتصارات، أو استدراك الهزائم، بينما الوقت ينفد سريعاً. كم تكرّر، في تاريخنا الكروي وحده، أن تستقبل شباكنا هدفاً مبكراً، ونعجز عن تعويضه في طول وقت المباراة، أو نحتفظ بشباكنا نظيفة حتى ما قبل النهاية بلحظات، ثم تنهار دفاعاتنا من دون أي سبب موضوعي، لا ضعف لياقة ولا هبوط فني. لا شيء سوى ثقافة الاستهانة بالوقت، كأن المباراة تنتهي قبل وقتها بدقائق، وليس في موعدها المحدد.
ولا بد هنا من التفرقة بين صفرية العقلية وعقلية الصفر، فالأولى سر الثانية والمدخل إليها. محدودية الفكر وقلة إعمال العقل تُفضي بالضرورة إلى التكيف العقلي مع الدونية والاتساق الذاتي مع التدنّي. يكفي إلقاء نظرة على ما يحدث في مصر من أخطاء وكوارث، معظمها نتاج قصور بشري. ويتعامل معها المجتمع، بمستوييه الرسمي والشعبي، بتقبل وأريحية مُدهشين. قبل النتائج الهزيلة في مونديال روسيا بأيام قليلة، أخطأت الإذاعة المحلية في الإسكندرية توقيت أذان المغرب، فأفطر أهل المحافظة كلها قبل موعد الإفطار بدقائق. ومنذ شهرين، أغرقت الأمطار منطقة القاهرة الجديدة، وهي من أحدث أحياء العاصمة وأرقاها. في هذه المواقف، وغيرها كثير، لا تتعلق الكارثية أو بالأصح "الصفرية" بالخطأ أو الأزمة، بقدر ما ترتبط بطريقة معالجتها، ثم التأقلم مع النتائج السلبية المترتبة على الإدارة الخاطئة.
والغريب أن لكل منطقه في تقبل وتفسير الهزيمة أو الخطأ، فعند الإسلاميين "إنها إرادة الله" و" قدر الله وما شاء فعل"، وعند القوميين والليبراليين "ليس في الإمكان أبدع مما كان". وبينما تعتبر الدولة أنها حالات فردية سيتم تداركها، أو مؤامرة واستهداف، فهي عند الشعب جزء من حياة يومية مأساوية أصلاً.
تلك هي منظومة التسليم والاستسلام، المترتبة على منطق التواكل وعقلية اللا عمل. ليشكلا معاً ثقافة الأصفار في قمة صفريتها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.