البحث عن طفولة القصيدة العربية

البحث عن طفولة القصيدة العربية

28 مايو 2018

نصوص بالخط الصفائي عثر عليها في الأردن

+ الخط -
حتى لو لم يشكّك طه حسين بنسبة الشعر الجاهلي إلى أصحابه الذين قرأناهم على مقاعد الدرس، والزمن الذي كُتب فيه هذا الشعر، فإن علينا أن نشك، أو نتساءل، ليس في ما ذهب إليه طه حسين، ولا في مقصده، وإنما بطفولة الشعر العربي. فكيف يتسنّى أن تكون هذه هي بدايات القصيدة العربية وليس فيها، كما في البدايات، تعثّر أو رخاوة، أو ركاكة؟ كيف يمكن أن يكون هذا النضج اللغوي والتعبيري والتصويري عتبةً أولى للقصيدة العربية؟ أين هي طفولة القصيدة العربية؟ أين خطواتها الأولى؟ لا أحد يعرف. لا أحد يجيب. عليك أن تقتنع أن شاعراً بقوة امرئ القيس، أو طرفة، كانا البداية، ولا سابق لهما في المدونة الشعرية العربية. لا فوارق زمنية كبرى بين من نسميهم شعراء "الجاهلية"، ولا تفصلهم فجوة زمنية كبرى عن ولادة الدين الإسلامي. هناك من يقدّر هذه الفترة بين مئة وخمسين ومئتي عام. يعني، نحن نتحدّث عن القرن السادس الميلادي. ثم لم تنقطع سلسلة الشعر العربي، بعد ذلك، إلى يومنا هذا، تقريباً. فقد دخل هذا الشعر في عصورٍ سميت باسم خلافة زمنه أو رقعته الجغرافية: الأموي، العباسي، الغرب الإسلامي، الأندلس، وما شابه.
ليس الأمر، مثلاً، مشابهاً للفجوة الزمنية الفاصلة بين بدايات الشعر الإنكليزي الذي تعتبر قصيدة "باي وولف"، المكتوبة باللغة الإنكليزية القديمة في القرن السابع الميلادي، وجيفري تشوسر الذي عاش في القرن الخامس عشر، والمعتبر أبا الشعر الإنكليزي "الحديث". "باي وولف" التي لا يمكن نسبتها لشاعر بعينه (ملحمة من نحو ثلاثة آلاف بيت) هي البداية التي يعود إليها الباحثون عند الحديث عن الشعر الإنكليزي، أما النقلة التي حدثت في هذا الشعر فكانت على يد تشوسر. هل لدينا "باي وولف" عربية، تحدَّر منها شعرنا؟ لا نعلم. كل ما نعلمه، حتى الآن، أن الشعر الجاهلي هو البداية. وهذا يستحيل تصديقه، نظراً إلى ما هو عليه من تطوّر يفترض تجارب وبدايات وتمرينات أسبق بكثير. ويزيدنا بلبلةً أن ذلك هو شعر الصحراء، أو البادية، بحسب ما تقوله الأدبيات العربية التي أرَّخت لهذا الشعر، فيما لم نعثر على شعر في الحواضر المنسوبة إلى العرب جزئياً أو كلياً، مثل الحواضر النبطية، مملكة تدمر، مملكة الحضر، فكيف يكون كل هذا العمران المادي ممكناً (انظروا في عبقرية الفن المعماري النبطي في البتراء ومدائن صالح، أو عمران المملكة التدمرية) ولا يكون هناك فن كتابي؟ صحيح أنهم كانوا يُنطقون الحجر، لكنهم كانوا يتكلمون ويتاجرون ويحبون ويتخاصمون ويتعبدون، فكيف كانوا يعبرون عن ذلك أبعد من الكلام العادي؟
هذا ما لا نعرفه الآن، ولكن ليس إلى الأبد، فقد بدأت أبحاث شبانٍ عرب وأجانب يعملون في الجامعات الغربية تظهر لنا جانباً من هذا اللغز. كتب الباحث والشاعر الفلسطيني الشاب في جامعة لايدن الهولندية، حكمت درباس، أكثر من مرة في "ضفة ثالثة" عن أعمال هؤلاء، وما توصلوا إليه في هذا المجال، خصوصا دراسة أحجار عُثر عليها في البادية الشمالية الأردنية تحمل نصوصاً شعرية، أو مقاطع من نصوص، في "عربية قديمة" تشير إلى ممارسة شعرية مبكرة.
ربما من المفيد التذكير بأعمال الباحث العربي الشاب أحمد الجلاد الذي تحدثت إليه "نيويوركر"، أخيراً، في خصوص عمله على "استبناء" تاريخ عربي مجهول مكتوب على أحجار مكتوبة بالخط الصفائي.
الفترة الزمنية بين "الشعر الجاهلي" وتلك النصوص التي تناولها درباس ليست قصيرة، فنحن نتحدّث عن خمسة أو ستة قرون (وربما أكثر قليلاً). وهذه فترة كافية لتطور النصوص ثلاثية الأبيات المكتوبة بالخط الصفائي والقصيدة الجاهلية كاملة الأوصاف. مع ذلك، لا تعيننا تلك اللقى على فهم تام لطفولة القصيدة العربية التي لا تشبه طفولة أي قصيدةٍ أخرى. فقد أسدلنا، لأسبابٍ دينية، ستاراً كثيفاً على الفترة السابقة للإسلام. كأنَّ الإسلام يجبّ ما قبله معرفياً. وهذا عين الخطأ، فإذا كانت القصيدة الجاهلية هي أول الشعر العربي والقرآن، أول نص "نثري" عربي متكامل الأركان، فكيف أمكن أن يكونا على هذه الدرجة من الإعجاز (هذا حرفياً ما جاء في القرآن على هذا الصعيد) في بيئةٍ لا تقرأ ولا تكتب؟ أين السلالة التي تحدَّرا منها؟ البحث يستمر. وقد نصل، عندما نفصل بين الديني الإيماني والمعرفي، إلى بدايات طريق.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن