حين يمتد ليلي ويطول

حين يمتد ليلي ويطول

14 مايو 2018

(عصام معروف)

+ الخط -
يتحكّم الأرق اللعين برأسي المتعب، يمسك بزمام ليلي بقسوة ديكتاتور متسلط، لا تدرك الرحمة قلبه.
يطرد النوم عن جفوني شر طردة، ينهره بجلافةٍ، عندما يبدأ في التسلل إلى حواسي، قائلا بحزم ابتعد عنها أيها الأحمق. لن تقوى على مواجهتي، أنا السيد المطلق هنا، وأنت مجرّد حاجة بيولوجية لن تتحقق إلا برحيلي الذي لن يحدث. سأظل مقيما هنا أضخ الهواجس في روحها على هواي. إياك أن تقترب خطوة أخرى. دعها معلقة هكذا بين أنياب الصهد تفتك بها. أنهض من فراشي مخذولةً، ساخطةً، ألعن حظي العاثر الذي جعل مني امرأة متيقظة كثيرة الانتباه. أتذكر كم أشعر بالحقد على المسافرين بقربي في الطائرة، حين يغطون في نوم عميق، حال إقلاع الطائرة، لا يستيقظون إلا حين تربت المضيفة بحنان مفتعل على أكتافهم، كي يتناولوا الوجبة المعلبة، وسرعان ما يعودون إلى نومهم الهانئ الطويل. أهرب إلى حجرة الجلوس، تتبعني الكوابيس والمخاوف مثل ظلي، تتشبث بأطراف منامتي. تقرفص قبالتي متحديةً، مثل لعنات صغيرة تتواثب بصفاقةٍ حولي، يصفق لها الأرق إطراءً معبرا عن استحسان كبير، ويثني على اتباعها التعليمات والأوامر.
ألجأ إلى موسيقى هادئة علها تساعدني على استجلاب النوم الذي طار بعيدا، بحثا عن جفون أكثر استحقاقا لراحة البال، أصيب طقس مدينتي، عمّان، بمسٍّ من الجنون، إذ لا يكاد يستقر على حال، وخزانة الثياب باتت تعاني من شيزوفرينيا حادة. تختلط ثيابي الشتوية بالصيفية، ما يزيد ارتباكي، وتتعاظم حيرتي في كل مرة أفكر فيها بالخروج.
صوت الرياح العاتية في الخارج يبعث الوحشة في النفس. تنتابني رغبةٌ في الخروج وسط العاصفة. أرغب في إلقاء الأرق النذل في قلبها المنتفض، علها تبلتعه، وتحرّرني منه إلى الأبد. رعد وبرق وأمطار غزيرة تضرب نوافذي بغضب، يحدث ذلك في عز الصيف، تحديدا قبل أيام قليلة من حلول حزيران، شهر النكبات على اختلاف أنواعها. خمسة أيام بالتمام والكمال تفصل بين ذكرى حزيران وذكرى ميلادي، وهو نكبة وجودية باهظة تطلّ مطلع كل حزيران، فتكتمل الهزيمة، ويحل الحزن علامة فارقة لهذي الروح التي تشتاق إلى الفرح. أفتح النافذة على الرغم من رداءة الطقس، يلتمع ضوء عمود الإنارة المغسول بالمطر، ينعكس على اليافطة التي تحمل اسم شارعنا.. من أخذ قرارا بتسميته شارع السكينة؟ أضحك من عمق حزني: على أي أساس؟ عن أي سكينةٍ تهذرب أيها الموظف الرسمي البائس. والقلق يكاد يقفز من عيون أهل الحي الغاضبين جرّاء السياسات الضريبية الجديدة التي أقرتها الحكومة. ألقي نظرة على الصيوان في العمارة المقابلة، تتقاذفه الرياح، ويضربه المطر تنقلب المقاعد، وتنكفئ دلال القهوة. صادف ذلك ثالث أيام العزاء لجاري العجوز الفضولي اليافاوي الطيب أبو نبيل. تغرب الرجل طوال حياته في الخليج، كي يقيم بناءً من ثلاثة طوابق، يعيش من أجرتها، وهو الرجل المبتسم الوحيد في هذا الفضاء المعادي، في حي متجهم كئيب، لا يُحسن سكانه تبادل تحية صباح.
بسيطة، رحل النخوجي الشهم الذي كان يصرخ بابنه الأربعيني، حال ترجلي من السيارة محملةً بالأكياس البلاستيكية "قم يا ولد ساعد جارتنا". رحل الرجل المختلف بصمت، دونما جلبة كبيرة. عرفت ذلك حين شاهدت العمال ينصبون الصيوان في ساعة متأخرة. حين دخلت بيت العزاء، وجلست بين نساء غريبات متشحات بالسواد، تملكني حرج شديد. كانت المرة الأولى التي أدخل فيها إلى بيتهم، على الرغم من دعواته الصباحية المتكرّرة إلى شرب فنجان قهوة، والتعرف إلى العائلة. ندمت في تلك اللحظة، قالت الأرملة المكلومة "الناس تغيرت يا بنيتي، ما شفنا حدا من الجيران.. زمان الجيران كانوا أهل.. الآن لا نعرف حتى أسماء بعضنا". قبلت جبينها معزّية، ثم غادرت على أمل أن يهدني الحزن، ويسلمني إلى النوم، غير أن
الأرق كان بانتظاري، مثل قرين شيطاني متفرغ، أخذت أحدثه عن أبو نبيل، والسرطان الذي أتى على عظامه، فيما الليل يمتد ويطول، ويصبح أكثر وحشة.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.