"الوقوع عن المطيّة"

"الوقوع عن المطيّة"

03 ابريل 2018

باسكال كينيار: الزمن جديد باستمرار

+ الخط -
"فجأة، ثمّة ما يدفع الروح إلى الوقوع داخل الجسد. فجأة، يقلب الحب مجرى حياتنا. وفجأة، يقلب موتٌ مفاجئ نظام العالم، وخاصة عالم الماضي، لأن الزمن جديد باستمرار. الزمن جديد أكثر فأكثر. إنه يتدفق دونما توقف من المنشأ مباشرة. ينبغي المرور مجدّدا بالشدّة الأصلية بعدد ما أردنا العيش من جديد".
هذا مقطع من كتابة باسكال كينيار (1948)، الكاتب والناقد الأدبي والناثر والفيلسوف الفرنسي، الذي يعدّ من أهمّ كتّاب فرنسا المعاصرين، لا بل من كتّاب العالم. فهذا "الناسك" المنقطع عن العالم والمنقطع للكتابة، الخارج كليةً على نظام العرض والطلب، ومقتضيات التسويق الذاتي الذي بات مستعبِداً لأكثرية الكتّاب المعاصرين، والذي، بتميّز أدبه واستثنائيته وحرّيته، تمكّن من الحصول على اعتراف "السوق" به، إذ حاز على عدة جوائز، من بينها الجائزة الأدبية الفرنسية الأرفع، غونكور.
في كتابه "الوقوع عن المطيّة" (2012)، الذي يشكّل الكتاب السابع ضمن سلسلته الأدبية "مملكة أخيرة" التي بدأها إثر حادث صحّي كاد أن يودي بحياته، ينطلق كينيار من قصص من وقعوا عن مطيتهم، واقعيا أو رمزيا، فانقلبت حياتهم إثر ذلك رأسا على عقب. والمعنى هنا مجازيّ بالطبع، إذ يمثّل فعل الوقوع بالنسبة إلى كينيار، حدثا جوهريا، جذريا، ومؤسِّسا، إنه أشبه بالممات من أجل ولادةٍ ثانيةٍ بالمعنى الذي خبره الزاهدون والمتصوّفة والعرّافون. وكينيار الذي يشبه أدبه فعلا تأمّليا، يطرح عبر كتابه هذا السؤال: ما الذي نتخلى عنه، عندما نحظى بفرصة الوقوع والولادة من جديد؟ ليأتي الجواب أدبيا وشاعريا، بقدر ما هو متجذّر في السياسي والتاريخي، حيث تجري مساءلة الإنسان عمّا بقي فيه من حيواني، ومساءلة الحضارات التي بناها عمّا حوته من قسوةٍ لا متناهية وشهوة السلطة والقتل وسفك الدم. "الحرب هي العيد البشري بامتياز"، يكتب كينيار، "وما هو الإنسان؟ هراوة للقتل، وجعبة قديمة لحمل القتيل، لغة لرواية مقتل القتيل للحيّ (آكل الميت)". والحلّ للخلاص من هذا كلّه؟ الانسحاب، والوحدة، والاستقالة والصمت. الانسلاخ عن الجماعة، والتخلي عن الدور الاجتماعي، والتحوّل إلى ناسكٍ يصغي إلى "صوت الحرية. صوت أكواز الصنوبر التي تتمزق وتنفتح فجأة، تحت الأغصان، في الظل الأسود الرائع، تحت الصنوبرة الوارفة، قبالة جزيرة كابري، صيفا، وفي جزيرة إسكيا، تحت السماء الزرقاء".
يتناول كينيار أمثلة عديدة عمّن عرفوا محنة الوقوع عن المطية، مثل شاول الذي وقع عن حصانه في طريقه إلى دمشق، وفجأة فقد البصر، ثم حين نهض، أصبح بولس الرسول. وكذلك الفيلسوف مونتانيو الذي سقط عن فرسه خلال نزهة، فتمدّد "ميتا، منقلبا، وجهه مليء بالكدمات والتقرّحات"، والذي، بعد أن تقيّأ دلوا من الدم، بدأ يكتب مؤلفه الشهير "أبحاث". أو المحارب والشاعر آغريبا دوبينيه الذي سقط عن صهوة حصانه في المعركة عام 1577، ونظم، وهو فوق سرير الألم، أولى أبيات قصيدته "مأساويات". كل هؤلاء وسواهم، بدأوا يكتبون بعد سقوطهم، لأن الكتابة هي البقاء على قيد الحياة، وهي الولادة من جديد.
الكاتبة جورج صاند كانت تختفي في إحدى غرف منزلها لتكتب. هناك حيث جاءها، قبل سنوات، خبر وفاة والدها إثر سقوطه عن صهوة جواده. أيضا هناك نيتشه، والواقعة الشهيرة التي تروي كيف أنه ركض في إحدى ساحات تورينو، يعانق جوادا، وقد ألهبت جلده سياطُ صاحبه المتوحّش، ما جعل الفيلسوف يغرق مذاك في ما سُمّي "جنونه". الأمثلة عديدة، وليس آخرها كينيار نفسه الذي عرف انهياره العصبي الأول، وهو لم يبلغ السنتين من عمره، فكان يرفض الأكل والكلام، ثم تكرّر ذلك معه أكثر من ستّ مرات، فعاد ووقف على قدميه، وكاد يموت بأزمةٍ صحية، لكنه بعث من جديد.
وفي كل مرة، يسقط مبدعٌ عن صهوة الحياة، يكفي أن يكتب ويبدع، ليولد حراً من جديد.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"