عدنان أبو عودة ويومياته المضنية.. دبسٌ قليل وخرّوب كثير

عدنان أبو عودة ويومياته المضنية.. دبسٌ قليل وخرّوب كثير

07 فبراير 2018
+ الخط -
ما عاد أحد من المؤرخين، أو المشتغلين بالتاريخ، يجادل في أهمية المذكرات أو السير في كتابة التاريخ، أَكانت تلك السير ذاتية أم غيرية. والمعروف أن السيرة الذاتية، بالتعريف، هي التي يكتبها صاحبها بنفسه، بينما الغيرية هي التي يكتبها غيره اتكاءً على رواية صاحب السيرة، أو استناداً إلى الوثائق والوقائع الثابتة. وكتابة المذكرات والسير استعادية، أي أن صاحبها يكتبها في زمنٍ يختلف عن زمنها الأصلي. وتكمن أهميتها في معرفة الوقائع من منظار الراوي نفسه، وفي أهمية الراوي، ومكانته وقدرته على الاستقراء والاستنتاج. والمذكرات تُكتب بعد مرور سنواتٍ على الزمن الحقيقي للوقائع، فيتدخل "العقل" ليعدّل ويشذّب ويحذف، ويفسر استناداً إلى الخبرة المتراكمة. أما اليوميات فتُكتب في وقت الحدث بالذات، وبلغة الزمن الذي وقعت فيه؛ وهي لغة ربما تكون حارّة في لحظة وقوع الحدث، لكنها تصبح باردةً ومتقادمةً مع مرور الأيام. فاليوميات مثل "دفتر اليومية" لصاحب الدكان، فلا يمكن معرفة الوضع المالي للدكان من خلال دفتر اليومية وحده، ولا بد، لهذه الغاية، من "دفتر الأستاذ" الذي يصنف العمليات اليومية ليظهر حساب المرابحة على حقيقته. والأستاذ هنا هو المؤرخ الذي تمده اليوميات بمادةٍ أوليةٍ بسيطة، لأن اليوميات لا تتضمن، في العادة، استقراءً واستنتاجاتٍ إلا في نطاق محدود جداً. ثم إن أي استنتاجات، إذا وُجدت، تصبح بلا فائدة مع مرور الزمن، لأن دوران الأيام يتكفل ببرهان عوارها من خوارها. بينما المذكرات التي تُكتب في زمن غير زمن الوقائع تتيح لكاتبها أن يرى بعينين خبيرتين، فيقدم خلاصةً لتجربة أيامه المتراكمة. واليوميات، في حد ذاتها، ليست ذات قيمة عالية، بل قيمتها محدودة، إلا القليل منها تبعاً لمكانة صاحبها. وفي جميع الحالات، لا الماضي يفسر الحاضر تماماً، ولا الحاضر يكشف لنا خفايا الماضي، فهذه المقولة الكسيحة هي نوع من إسقاط زمنٍ على زمن، وإدماج الأزمنة بعضها ببعض. والمؤكد أن الحاضر المتحرّك هو الذي يفرض أسئلته على الماضي الساكن، وليس العكس. 

مثل الخروب
بهذه الرؤية قرأتُ "يوميات عدنان أبو عودة" (عمّان: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات، 2017)، التي طالت وتطاولت حتى بلغت 1150 صفحة. وأنا أغبط الصديق معين الطاهر الذي أعدّ هذه اليوميات على صبره وجَلَده، وعلى انتقاء ما اعتقده مفيداً من بين آلاف الأوراق التي دُوّنت عليها هذه اليوميات. لكن هذا الجهد المشهود لا يمنعني من القول إن ما بين يدي هو كتاب كَثُر تفصيله وقل تحصيله؛ فهو مثل الخرّوب الذي يحتاج المرء طناً منه لاستحلاب كيلوغرام واحد من الدبس. والحقيقة أن أحداً لم يبزّ عدنان أبو عودة، بحسب معرفتي، في الانتقال من حزب التحرير الإسلامي إلى الحزب الشيوعي الأردني إلا فؤاد عبد النور الذي بدأ حياته السياسية شيوعياً، وأنهاها في جماعة "شهود يهوه" (راجع تجربته في "عشنا وهرمنا وشُفنا أخيراً"، بيروت: دار الفارابي، 2014). ويذكّرني ذلك بفدائي كان مؤذناً وخطيباً في أحد مساجد غزة، وبعد هزيمة 1967، وصعود الفكر الماركسي، تحول إلى الشيوعية، وانضم إلى أحد الفصائل اليسارية، وتسمى باسم حركي هو "الشيخ لينين". ومهما يكن الأمر فإن المرء يتوقع من المذكرات أو السِيَر أو حتى اليوميات التي يدونها رجال المخابرات، من طراز عدنان أبو عودة، الذي التحق بالمخابرات الأردنية في سنة 1965، أن تكشف أسراراً، أو تنير جانباً من السياسات الظليلة. لكن هذه اليوميات لا تكشف الكثير في هذا الميدان.

عدنان أبو عودة يصافح نلسون مانديلا وفي الصورة الملك حسين وزيد بن شاكر

ليس عدنان أبو عودة صانع قرار إلا في نطاق محدود. ولم يكن له موقع سياسي مقرّر. فمن ضابط في المخابرات الأردنية يعمل في تحليل التقارير الاستخبارية، إلى وزير للإعلام في الحكومة التي قضت على المقاومة الفلسطينية في سنة 1970، إلى رئيسٍ للديوان الملكي فمستشار يُشير هنا أو يُستشار هناك. غير أن موقعه العملي كان يتيح له أن يشاهد وأن يسمع، أي أن يعرف، لا أن يرسم سياساتٍ، لأن راسم السياسات، في نهاية المطاف، هو الملك وحده. ومع ذلك، فإن يومياته لا تفصح عن المستور كثيراً، ولا تكشف الخفايا إلا قليلاً، ولا تروي غليل الباحث النهم، مثلما لا تروي الحقائق كما يجب أن تروى. وهذه اليوميات تمتد من سنة 1973 إلى سنة 1988، أي خمس عشرة سنة. أما سنة 1970 التي ظهرت على غلاف الكتاب فلا تتضمن إلا مرسوم تأليف الحكومة العسكرية التي احتل فيها الرائد عدنان أبو عودة موقع وزير الإعلام. وهذا المرسوم ليس من اليوميات، فهو مرسوم ملكي، وكان من الأجدى وضعه في ملحق الوثائق. وكذلك النص الذي يسرد مضمون "الاتجاه الإعلامي الذي أملاه وصفي التل على عدنان أبو عودة" إنما هو نص لوصفي التل، وليس لعدنان أبو عودة، وكان في الإمكان إدراجه في باب الوثائق أيضاً، فاليوميات هي اليوميات التي يكتبها الشخص نفسه، وليست يوميات الآخرين، حتى لو وضعها صاحب اليوميات بين أوراقه أو كتبها بخط يده.
واللافت في هذه اليوميات عدم وجود أي ورقة في سنتي 1972 و1982، الأمر الذي يُدني من أهمية اليوميات، ويخفض مدى التغطية إلى 13 سنة فقط. وفوق ذلك، فإن سنة 1974 لا تتضمن أي "خبرية" عن قصة تسلل محمد عودة (أبو داود) إلى الأردن واعتقاله على رأس مجموعة فدائية، ثم إطلاقه لاحقاً. وتوقعنا أن نعثر على معلوماتٍ قاطعة في شأن شائعة محاولة اغتيال الملك حسين في الرباط في سنة 1974، فلم يُشفَ غليلنا، ويبدو أن تلك الرواية مجرّد خرافة وحكاية مختلقة. وكذلك لا تلتفت تلك اليوميات إلى الحرب اللبنانية أو مفاوضات الكيلو 101 واتفاقية سيناء بين مصر وإسرائيل إلا بإشارة من هنا أو بخبر من هناك مبثوث في ثنايا اليوميات. وجاءت سنة 1976 هزيلة جداً، فهي ثلاث ملاحظات في ست صفحات، مع أن تلك السنة شهدت حوادث هائلة، كمؤتمر القمة العربية في الرياض، وتأليف قوات الردع العربية، واندلاع الخلاف المصري – السوري. ولا تتضمن سنة 1983 إلا محضراً عن ندوة في مدينة أتلانتا الأميركية، ونص مشروع الاتحاد الكونفدرالي الفلسطيني – الأردني.
وعلى هذا الغرار تفتقر اليوميات، افتقاراً عجيباً، إلى وقائع كثيرة جداً شغلت العالم العربي في 
أثناء حدوثها، وشكل بعضها عناصر فائقة التأثير في السياسات العربية، كالاغتيالات الإسرائيلية التي ذهب ضحيتها عدد من القادة الفلسطينيين والعرب (محمود الهمشري ووائل زعيتر وباسل كبيسي وكمال ناصر وكمال عدوان وماجد أبو شرار ومحمد يوسف النجار) واغتيال حردان التكريتي في الكويت، وإسقاط طائرة مدنية ليبية فوق سيناء، وخطف طائرة لبنانية كان الموساد يعتقد أن جورج حبش على متنها، وقطع النفط السعودي عن الولايات المتحدة الأميركية وهولندا (1973)، وتدمير المخيمات في لبنان، والعمليات الانتحارية الفلسطينية، واعتقال المطران هيلاريون كبوجي، وبرنامج النقاط العشر، وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة (1974)، واغتيال الملك فيصل وعملية فيينا التي قادها كارلوس ضد وزراء البترول في منظمة أوبيك (1975)، وتجديد العلاقات الإسرائيلية – الكتائبية، وعملية عينتيبي (1976)، واغتيال كمال جنبلاط، ووصول الليكود إلى السلطة في إسرائيل (1977)، وانفجار الصراع السوري - الكتائبي في لبنان، والاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان الذي أعقب العملية الفدائية التي كانت دلال المغربي على رأس إحدى مجموعاتها، واختطاف موسى الصدر في ليبيا (1978). ولا يُعفي هذه اليوميات من مسؤولية النقصان الكثير والمستغرب فيها ورود إشاراتٍ مقتضبة ومتباعدة عنها، في بطون النصوص الأخرى.
الخواء
حسناً فعل الصديقان معين الطاهر ومعن البياري، حين نشرا مقابلة صحافية مطولة مع صاحب اليوميات. فتلك المقابلة أدرجت اليوميات في سياق الحاضر، وأضاءت على طريقة عدنان أبو عودة في التفكير حتى بعد 50 عاماً على تجربته في المخابرات والإعلام ودروب السياسة، وأنقذت اليوميات، ولو جزئياً، من يباس الماضي إلى نضارة الحاضر. لكن حتى هذه المقابلة لم تنجُ من لغة الإخفاء، وهي لغة احتيالية في أي حال. وعلى سبيل المثال، يروي عدنان أبو عودة أن الملك حسين استدعى وزراء حكومته، حين تقدمت القوات السورية من الرمثا إلى جرش في سبتمبر/ أيلول 1970 للحصول منهم على تفويض باستدعاء قوات أجنبية (ص 35). مَن تكون تلك القوات الأجنبية؟ لماذا لا يفصح كاتب اليوميات عن أنها قوات إسرائيلية؟ وهذا معروف تماماً، فالاجتماع عُقد في قصر الحمّر في 19/9/1970، وبقية تفصيلاته منثورة في مراجع كثيرة صحيحة. وعلى هذا النحو يورد فقرة على لسان جمال عبد الناصر يقول فيها للملك حسين: "أعرف عن اتصالاتك بإسرائيل، فإذا كنت تستطيع أن تستعيد الضفة فافعل بأي طريقة" (ص 40). لكنه يعود ليورد الفقرة بصيغة أخرى هي: "يا جلالة الملك، بأي طريقة كانت، إذا كان بإمكانك أن تسترجع الضفة الغربية فلا تنتظر" (ص 47). وللمرة الثالثة، يوردها بصيغة مختلفة بعد لقاء الملك حسين موشي دايان في لندن في أغسطس/ آب 1977، فينقل على لسان الملك حسين أن عبد الناصر قال له: "القدس قبل قناة السويس، وعليك أن تتحرّك دولياً حتى لو قبّلت يد جونسون. افعل ذلك من أجل القدس. افعل أي شيء ما عدا الصلح المنفرد" (ص 604). وهذه هي الصيغة الصحيحة، أي أن استرجاع الضفة 
الغربية والقدس مشروط بعدم توقيع صلح منفرد مع إسرائيل التزاماً بمقرّرات مؤتمر الخرطوم في 29/8/1967 الذي أعلن اللاءات الثلاث المشهورة: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، وهو ما خرقه أنور السادات في 1977. ويقول عدنان أبو عودة إن هنري كيسنجر أخبره في سنة 1983 بأن السادات هو صاحب قرار قمة الرباط في سنة 1974 أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. غير أن أسامة الباز يقول إن كيسنجر همس بالفكرة في أذن وزير الخارجية المصري، إسماعيل فهمي، الذي همس بها بدوره في أذن السادات (ص 47 وكرّرها في ص 50). إنها إذاً سياسة الهمس باللمس بالنظرات بالآهات. واللافت في المقابلة أن الملك حسين وافق على اقتراح إسرائيلي يتضمن إنشاء كونفدرالية أردنية – فلسطينية، بحيث تكون السيادة على السكان في الضفة الغربية للأردن بصفة كونهم مواطنين أردنيين، وعليهم كمقيمين في إسرائيل دفع الضرائب لإسرائيل (ص 60)، وهذا أمر خطير حقاً.

الملك حسين بين عدنان أبو عودة وخالد محادين

داء النقرس
الكتاب، بحجمه الكبير جداً، مصاب بالنقرس مثل صاحبه (ص 278)، فالسياسة الخارجية الأردنية، كما تبدو في هذه اليوميات تجعلنا نرفع القبعة لحافظ الأسد وياسر عرفات، لأنهما تحملا ما تحملا من المناورات والألاعيب ودعم الخصوم، وبالتحديد جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وبعض الوجهاء وأصحاب المصالح في الضفة الغربية. وفي كل اجتماع فلسطيني مع القيادة الأردنية كانت تلك القيادة تحاصر ياسر عرفات بالأسئلة، وكأنها تحقق معه، أو تتهيأ للانقضاض عليه. وما يشير إلى تلك السياسة ويثير الريبة معاً أن أبو عودة يكشف أن رئيس الوزراء أمر بأن تستخدم أجهزة الإعلام الأردنية، أي الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء، عبارة "الفلسطينيين" بدلاً من "الشعب الفلسطيني"، وهو ما كانت إسرائيل تفعله (ص161). ويقول أبو عودة إن أقرب القرارات إلى مبادئ العدل والحق هو قرار التقسيم في عام 1947 (ص317). وهذا الكلام غريب فعلاً، والأغرب أن يصدر عن شخصٍ من أصول فلسطينية. ربما يكون ما هو أقل من قرار التقسيم اليوم منتهى أشواق الفلسطينيين جرّاء إكراهات الواقع، لكن قرار التقسيم في حينه، أي قبل سبعين عاماً، هو أكثر القرارات الدولية لؤماً ومجافاة للحق والعدل. وفوق ذلك، فإن منافحة أبو عودة الدائمة عن رئيس الوزراء الأردني الأسبق، وصفي التل، لا يمكنها أن تمحو ما يجلل هامة وصفي التل في المسؤولية، إلى جانب أردنيين وفلسطينيين آخرين، عن مجازر سبتمبر/ أيلول 1970 وعن مجازر يوليو/ تموز 1971 في قطاع جرش – عجلون التي راح ضحيتها نحو ألف فدائي بينهم أبو علي إياد. والرواية تقول إن وصفي التل هو الذي أمر بإعدام أبو علي إياد بعد أسره وتعذيبه. فماذا يقول أبو عودة؟ لا شيء بالطبع، تماماً مثلما صمت عن دور المخابرات المصرية في اغتيال وصفي التل أمام فندق شيراتون في القاهرة في 28/11/1971. ولا يحتاج أي شخص برهاناً ليعرف أن وصفي التل، خلافاً لكل ما يقوله أبو عودة عنه، لم يكن ملاكاً محباً للفلسطينيين، فهذا تضليل سافر. فعدنان أبو عودة مقتنع دائماً بما كان يردّده وصفي التل من عبارات مثل "الفدائي الشريف" و"الفدائي غير الشريف" (ص 33)، وأن الفدائيين حرموا الأردن من أن يكون العمل الفدائي وسيلة الأردن في الضغط على إسرائيل من أجل استعادة الضفة الغربية (ص 40)، وأن القيادة الأردنية كانت تريد العمل الفدائي لكن ليس ذلك النمط من العمل الفدائي (ص 36). وها هو، بعد 47 سنة على أيلول الأسود، ما برح يردد عبارات ناصر بن جميل ومنظمته "الفدائية" (كتائب الأقصى) التي كانت مهمتها التشنيع على الفدائيين، وتأليب الناس عليهم، واستغلال أخطائهم، وهي كثيرة في أي حال. وناصر بن جميل هو خال الملك حسين.
في ميدان آخر، لافت ما نقله عدنان أبو عودة على لسان أحمد طوقان الذي كان يتكلم أمام 
الملك عبد الله الأول على قرارات لجنة بيل الملكية البريطانية التي صدرت في 1937، فوصفها بأنها جائرة. فما كان من الملك عبد الله إلا أن رد قائلاً: لماذا تنكرون الواقع؟ إن الدولة اليهودية موجودة الآن وقائمة. ثم وجّه الشتيمة إلى عبد العزيز بن سعود قائلاً لمن حوله: إن نسيانكم له نوع من الإثم، إذ كيف نسمح له بالإبقاء على حكم مكة؟ (ص 327). وهذه الرواية اللماحة تشير، بل تبرهن أن آل سعود عملوا دائماً، كما هو معروف، على أن تكون بلاد الشام ملعباً لهم، فإن لم يتمكّنوا فيجب ألا تكون لأعدائهم الهاشميين في العراق والأردن. وأن الهاشميين في الأردن، والملك حسين هو رأسهم، بادل آل سعود الموقف ذاته، ولكن من موقع مختلف، فكان همّه الدائم، بعد أن ذهب عرش الشام من أيديهم، ألا تعود الوحدة السورية – المصرية، وألا تقوم وحدة عراقية – سورية، وألا يتمتع العراق أو سورية بدولة قويةٍ ومنيعةٍ، وأن تبقى منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من الأردن في 1971 في حال من الاضطراب والتضعضع.

فائدة هذه اليوميات
ربما يكون ليوميات عدنان أبو عودة فوائد ليست قليلة لمن يرصد الحياة السياسية في الأردن في تحولاتها وانعطافاتها وخضوعها لثنائية فلسطيني وأردني، ولانقسامٍ يتمثل أحياناً في صورة بائسة كالتنافس بين فريقي الوحدات الفلسطيني والنادي الفيصلي الأردني، أو بين اعتمار الكوفية بالأسود والأبيض والكوفية بالأحمر والأبيض، أو بين المسخَّن والمنسف. غير أن فائدة هذه اليوميات توضح، من دون إفصاح، أن جميل الرمحي (أبو إسماعيل) كان قناة استخبارية يستقي معلوماته عن الأوضاع الفلسطينية من عميل رفيع في حركة فتح. وقصرت اليوميات، عن كشف من كان يقف خلف الاغتيالات المتمادية في سورية (ص 498 و502 و504). ومع أنها تتحدّث عن هجوم مسلح ضد باص للمخابرات السورية في حي المهاجرين في دمشق، أي في الحي الذي يقع فيه منزل الرئيس حافظ الأسد، وأن 12 عنصراً قتلوا في ذلك الهجوم وجُرح 20 آخرون (ص 601)، غير أنها لا تشير البتة إلى المهاجمين وإلى انتمائهم السياسي، في حين يورد أبو عودة أنه التقى عدنان سعد الدين زعيم الإخوان المسلمين السوريين غير مرة، وأن سعد الدين أخبره بأنه يفكر في مهاجمة قرى علوية لجعل العلويين يحسّون بخطورة سيرهم وراء حافظ الأسد (ص 689). ولم يفسر لنا أبو عودة لماذا حاولت الاستخبارات السورية اغتيال رئيس الوزراء الأردني، مضر بدران، وخطفت الدبلوماسي الأردني هشام المحيسن في بيروت (ص 682). والتفسير الذي يمكن استنباطه أن ذلك كان رداً على دعم الأردن آنذاك الإخوان المسلمين في سورية الذين كانوا بدأوا عمليات عسكرية متمادية ضد الحكومة السورية. ويخبرنا أبو عودة أن رفعت الأسد هو الذي اغتال الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق في 1977 جراء انتقاداته للنظام، واغتال أيضاً في 1978 ابن خالته إبراهيم نعامة نقيب أطباء الأسنان في سورية، لأن زوجته جميلة (ص 698). 

عدنان أبو عودة متحدثا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة

ما هذه المعلومات؟ هاتان الشخصيتان البارزتان اغتالهما الإخوان المسلمون، وثبتت التهمة على هذه الجماعة بصورة قطعية. فإذا كانت المعلومات الاستخبارية المتجمعة لدى عدنان أبو عودة على هذا الطراز، فلا عجب أن تكون سياسات الدولة الأردنية في تلك الحقبة على مثل ذلك التشوش، ولعلها هي التي اضطرت الملك حسين، في نهاية المطاف، لإذاعة رسالةٍ إلى الرئيس حافظ الأسد في 10 /11 /1985 فيها من الاعتذار والتوبة ما لم يكن معتاداً في لغة التخاطب بين الملوك والرؤساء. ولا يكتفي أبو عودة في نثر معلوماته هنا وهناك كيفما اتفق، فهو يورد ثلاث عمليات اغتيال، هي اغتيال صلاح البيطار في باريس، واغتيال شهبور بختيار في باريس أيضاً، ومحاولة إغتيال يوسف العظم في عمّان، ويدرجها في سياق واحد (ص612). وهذا غلط فاقع، فالذي اغتال بختيار في سنة 1991 هو الإيراني علي وكيلي الذي أفرج عنه في سنة 2010 وغادر إلى إيران. وكان سبق ذلك محاولة لاغتيال شهبور بختيار نفذها في 18 /7 /1980 كل من أنيس النقاش وصلاح الدين القرى (من لبنان) وفوزي الستاري (من فلسطين) ومحمد جناب من إيران، وخططها حرس الثورة الإسلامية (راجع: صقر أبو فخر، أسرار خلف الأستار: حوار مع أنيس النقاش، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010). وفي المجال نفسه، يخبرنا أبو عودة عن منع صحيفة النهار اللبنانية من دخول الأردن بسبب مقالاتها (ص 195). والحقيقة غير ذلك، فالمنع ليس بسبب المقالات، بل بسبب الأخبار التي كانت تنشرها "النهار" (وغيرها من الصحف اللبنانية بطبيعة الحال) عن عملياتٍ نسبتها أخبار الصحيفة إلى المخابرات الأردنية في لبنان، مثل إلقاء متفجرة على مبنى "النهار"، ومتفجرتين على كنيستين مارونيتين، ومتفجرات على مكاتب 
لحركة فتح، واتهمت "النهار" المخابرات الأردنية آنذاك بتنفيذها (راجع "النهار"، 21 /11/ 1972). ومن تلك العمليات التي نشرت "النهار" أخبارا وافية عنها، اعتقال المدعو محمد عامر بدر في 1972 الذي اعترف بأن المخابرات الأردنية أرسلته إلى لبنان لإثارة الفوضى والإساءة إلى المقاومة الفلسطينية. وكذلك اعتقال السلطات اللبنانية في السنة نفسها مساعد الملحق العسكري الأردني في لبنان، وهو يقوم بمهمات تخريبية للإساءة إلى المقاومة الفلسطينية، وفي الأثر غادر ذلك الملحق بيروت إلى عمان. وفي 1973 كشف قسم الأمن القومي وقسم مكافحة التجسس في الشعبة الثانية اللبنانية (المخابرات العسكرية) مخططات تخريب أردنية، كإلقاء المتفجرات في منطقة رأس بيروت قام بها رائد سابق في الجيش الأردني، يدعى رفيق نعيم الحميدي. وهذه هي الأسباب المكشوفة لمنع صحيفة النهار من دخول الأراضي الأردنية. 

إيجاز مخِلّ وأخبار مستحيلة 
يلاحظ في كتاب "يوميات عدنان أبو عودة .." جهد لافت في إفراد هوامش إيضاحية وتعريفية بالوقائع وبالأشخاص الواردة أسماؤهم في المتن، وهذا محمود بالتأكيد، غير أنها مختزلة إلى حد مُخل. والتعريفات المختزلة مضللة أحياناً، والإغراق فيها غير مفيد في أحايين كثيرة. والهوامش التعريفية إما أن تكون مفيدة أو لا تكون، وعند ذلك من الأفضل إلغاؤها، فلا يجوز التعريف بمن لا يحتاج أي تعريف كالملك حسين الذي عُرّف بأنه ملك الأردن بين 1952 و 1999، أي بأقل من سطر. كما أن هناك تعريفات مختزلة تغيب عنها المعلومات الأهم عن صاحبها. عدا عن أغلاط في بعض الهوامش. وحبذا لو انصرف واضع الهوامش إلى تفسير "نظرية الشواخص المعادية" تبع عدنان أبو عودة (ص 199)، أو أخبرنا كيف تمكّن رئيس الوزراء الأردني (الأسبق)، زيد الرفاعي، من استهلاك ساعتين ونصف الساعة في الكلام أمام الرئيس حافظ الأسد في دمشق في اجتماع دام ثلاث ساعات فقط (ص 175).. وهذا غريب حقاً. نصف ساعة فقط للرئيس الأسد؟ إن ترحيب الأسد بضيوفه كان يستغرق أكثر من ذلك، ثم يجري الحديث السياسي الذي من المحال أن يصبر الأسد على من يتكلم أمامه ساعتين ونصف الساعة وهو صامت، ولو على دفعات. 
... الإنسان ميال بالفطرة إلى الحديث عن نفسه، وإلى تخليد أيام حياته، وهذه غاية السيرة الذاتية، ولعل أقدم السير هو ما كان القدماء ينقشونه على شواهد قبورهم الرخامية التي تبهت ألوانها وتختفي، بمرور الأيام وعوامل الحت وتأثير الشمس. ويوميات عدنان أبو عودة مفيدة في بعض جوانبها. أما معظمها فقد بات، إن لم أقل كشواهد القبور، مثل الأطلال الدارسة، أو مثل بقايا الوشم في ظاهر الأيدي المجعدة؛ إنها تذكّرنا بالتاريخ القريب، وتوقظ ذاكرتنا وصبرنا على مَن صنع مآسيه.