نحو شراكة مغاربية جديدة

نحو شراكة مغاربية جديدة

21 فبراير 2018

أعلام دول الاتحاد المغاربي في اجتماع بالرباط (18/2/2012/فرانس برس)

+ الخط -
لعل من سوء حظّ منطقة المغرب العربي أن انطلاق مسيرة البناء المغاربي في العام 1989 تزامن مع اندلاع الأزمة الجزائرية، ومضاعفات قضية لوكربي الليبية وانفجارالخلاف المغربي الجزائري مجددًا بشأن قضية الصحراء، إلا أنّ هذه الأزمات والخلافات البينية لا يمكن أن تفسّر بمفردها حالة الشلل التام التي وصل إليها الاتحاد المغاربي، بل لا مجازفة في القول إنه إذا أكّدنا أنّ الخلاف بشأن قضية الصحراء، على الرغم من خطورته، وعلى الرغم من أنّه كان العامل الحاسم في تعطّل مؤسسات الاتحاد، كان في الوسع التغلّب عليه ومحاصرة تأثيراته، لو كانت الظروف ناضجةً حقًا للمضي في عملية البناء.
لقد شكلت قضية لوكربي، وقضية الصحراء الغربية، والأزمة الجزائرية، وغياب الديمقراطية في المغرب العربي، وافتراس الدولة المغاربية المجتمع المدني، أهم المعوقات التي طاولت دينامية الاندماج المغاربي، وجعلت إنجازات الاتحاد دون حجم التطلعات التي صاحبت ظروف تأسيسه. وفضلا عن ذلك، فإنّ عدم إدراك الأنظمة المغاربية ضرورات الاندماج للبلدان المغاربية، وغياب الدعوات إلـى ترشيد أداء اتحاد المغرب العربي، وتفعيل مؤسساته، أسهم إسهامًا كبيرًا في استبعاد خيار التعاون المشترك بين الدول المغاربية. وتوحي القراءة الفاحصة لهذه المعوقات وكأنّ المغرب العربي لم يقدر على التخلص من ثقل التاريخ، ولم يخرج بعد من دائرة التجاذب بين منطق الحاجة والضرورة والتاريخ ومنطق الدولة القُطرية.
فقد استبشرت الشعوب خيرَا، حين عاشت لحظة تأسيس الاتحاد المغاربي (17 فبراير/ شباط
 1989)، ولامست مؤشرات تبلور خطاب جديد، يحمل فكرًا مميزًا، من سماته: الواقعية، التدرج في البناء، تغليب المصلحة المشتركة، التجاوب مع المتغيرات الحاصلة، في المحيط الجهوي والبيئة الدولية. إلا أنّ التعثر الذي اكتنف مسيرة الاتحاد أثّرعلى أدائه، وأعاق قدرته على تحويل الاتفاقيات والمشاريع إلـى إنجازات ومكاسب، قد حد ّمن جذوة هذا الحماس، وربّما سيولد خيبة أمل في مشروع المغرب العربي، وحظوظ بنائه، يتجاوز عمق حجمها هذه المرّة ما كان عليه. ويجدر الذكر هنا أن بناء المغرب العربي لن يكون من دون الشعوب، وبالأحرى ضد شعوب المنطقة. كانت الهوة واسعة بين الخطاب الرسمي حول الوحدة المغاربية ومسيرة البناء. ومنذ عام 1964 ما تزال النتائج هزيلة.
الاستعصاء في بناء الاتحاد المغاربي هو الذي يحملنا على معاودة طرح مجمل الأسئلة الحاسمة التي استقطبت، ولا تزال، اهتمام النخب المغاربية. وهي: لماذا بقي اتحاد المغرب العربي يراوح مكانه منذ حوالي ثلاثة عقود؟ هل يُعزى التعثّر والركود الذي شهده العمل المغاربي المشترك إلى الأزمات السياسية الظرفية التي عرفتها المنطقة خلال عقد التسعينيات، وإلى الخلاف الجزائري - المغربي المزمن حول قضية الصحراء، أم يُعزى إلى طبيعة الإشكاليات التي تواجهها اقتصاديات بلدان المغرب العربي ومجتمعاتها، والتي لم تكن لتسمح لها بإقامة منطقة للتبادل الحرّ، فضلاً عن إقامة سوق مغاربية مشتركة؟ ولماذا أخفقت المبادرات والمساعي التي بذلت منذ تعطل مسيرة الاتحاد، في 1995، في حلحلة الوضع؟ ولماذا لا تحفّز المعضلات الاقتصادية، والتضخم المفجع في حجم المديونية، واتساع الفجوة الغذائية، واستفحال ظاهرة البطالة التي تعاني منها المجموعة المغاربية ودوائر صنع القرار، على العودة إلى الرشد؟ ولماذا نجحت بعض البلدان المغاربية والعربية في إبرام اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي لإقامة منطقة "أورو – متوسطية" للتبادل الحرّ، في حين أخفقت، إلى حدّ الآن، في إقامة منطقة مماثلة على الصعيد المغاربي، أو على صعيد المنطقة العربية، منطقة يخضع إنجازها لأجندة واضحة وملزمة على غرار المنطقة الأورو - المتوسطية؟
والسؤال الخطير الذي يتناسل حتمًا عن هذه الحزمة من الأسئلة: هل مشروع الاتحاد المغاربي طوباوي يتعذّر إنجازه، شأن مشاريع جامعة الدول العربية، كمشروع بناء منطقة عربية حرّة، ومشروع السوق العربية المشتركة؟

ضعف العلاقات التجارية المغاربية
على الرغم من إبرام اتفاقيات ثنائية عديدة، ظلت التبادلات التجارية بين البلدان المغاربية ضعيفة جداً، وهي غير مستقرة، وغير منتظمة. إنها تابعة للتقلبات السياسية. وعندما تم توقيع اتفاق اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير/ شباط 1989، لم تتجاوز العلاقات التجارية البينية نسبة 3%، في حين أنه في أوروبا، عندما تم توقيع معاهدة روما في عام 1957، كانت المبادلات التجارية بين الدول الست المؤسسة للجماعة الاقتصادية الأوروبية تمثل 40%، وهذه مفارقة كبيرة.
ويعود ضعف المبادلات التجارية بين البلدان المغاربية إلى مجموعة من الأسباب:
أولاً: تمثل أوروبا التي تقع على الضفة الشمالية من البحر المتوسط قطبًا اقتصاديًا عالميًا.
 ونظرًا لخضوع المنطقة المغاربية للهيمنة الاستعمارية، فقد هيمنت المبادلات التجارية العمودية بين بلدان المغرب العربي وأوروبا، ولا تزال تحتل المرتبة الرئيسية، على حساب التبادلات التجارية الأفقية المغاربية البينية. ومع تعمق التبعية الاقتصادية والتجارية والثقافية للبلدان المغاربية، إزاء المراكز المتروبولوية الغربية، ظلت أرووبا سيدة اللعبة على صعيد المبادلات التجارية. وبالتالي، يوجد مركز القرار في أوروبا، لا في المنطقة المغاربية.
قد لا تسمح المعاينة المتعمقة لاقتصاديات دول المغرب العربي بإمكانية تحقق الاندماج بسهولة، ليس لطابعها التنافسي وحسب، بل لأنها متنافرة في طبيعتها، برّانية نسبيًا، وتعيش وضعًا صعبًا مزمنًا. فعلى الرغم من مرور 29 عاما على عمر الاتحاد، لا زالت التحديات التي كانت في أصل تأسيسه مطروحة ومستمرة، لا سيما الطابع البرّاني للاقتصاديات المغاربية، فمقابل هذا النزوع المتصاعد نحو الخارج، تظل المبادلات البينية متواضعة جداً، ذلك أنّ مرور أكثر من خمسة عقود على استقلال كل أقطار المغرب العربي، لم تتغير نسبة التبادل كثيراً عما كانت عليه في فترة الحماية الفرنسية، ذلك لأن المعدل العام للتجارة البينية في منطقة المغرب العربي لم يتجاوز نسبة 1.2% من مجموع المبادلات الخارجية، على الرغم من الاتفاقيات القطاعية المبرمة بين دول الاتحاد المغاربي. إن تحليل التوزيع الجغرافي للمبادلات التجارية لبلدان المغرب العربي يدل على المكانة العالية التي تحتلها أوروبا وباقي العالم.
ثانيًا: طبيعة أنظمة الإنتاج السائدة في البلدان المغاربية، وغياب الخطط العقلانية المدروسة لتحقيق التكامل الاقتصادي.
ثالثا: استمرار وجود الخلافات الحدودية، والخلافات السياسية، والتبعية الاقتصادية والمالية، واختلال الهياكل الاقتصادية، وتقليد الغرب، التي سممت جميعها العلاقات المغاربية، وشكلت عائقا كبيراً في تجسيد القرارات المشتركة للتعاون والتكامل الثنائي أو المتعدد وتطبيق هذه القرارات.
رابعًا: لا يكترث المواطنون المغاربة كثيراً عندما يسمعون أنباء إعلان اتحاد بين دولتين مغاربيتين أو أكثر. لا لأنّهم غير معنيين بالوحدة والتكامل الاقتصادي، وتعزيز حرية تنقل الأشخاص والسلع، بل لأنّهم تعودوا أن تكون هذه المشاريع إعلانية دعائية، ما أن تعلن حتى تنطفئ، لأنّها تغلّب السياسة على حساب الاقتصاد. لهذا أخفقت كل هذه الاتحادات لأن الحلول السياسية المحصنة، من دون التوقف عند توفير بعض الشروط الاقتصادية التي تقود ميدانيا التكامل الاقتصادي الإقليمي، تقود إلى نتائج عكسية. ولهذا فإنّ إعطاء الأسبقية للسياسة على حساب الاقتصاد هو مثل مبدأ إعطاء الأسبقية للاقتصاد على حساب السياسة، الأمر الذي يقود إلى تكاثر المشكلات المطروحة بشكل زائف. فالسياسة والاقتصاد يجب أن يكونا متداخلين بشدة، كما هو الحال في بناء أوروبا منذ نهاية الخمسينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن الهيئة الاقتصادية لاتحاد المغرب العربي التي اجتمعت في الجزائر، في بداية عقد التسعينيات، وضعت ثلاثة نصوص مهمة بشأن اتحاد التعريفات الجمركية، وحماية وتشجيع وضمان الاستثمار بين دول اتحاد المغرب العربي، وسن قوانين التعاون في مجال الضريبة على الدخل، فإنّ حرية المبادلات التجارية بين البلدان المغاربية لم تتطور بما فيه الكفاية، فالاندماج الإقليمي يتطلب تعاونًا كبيرًا على صعيد دول المغرب العربي، عن طريق إيجاد مشاريع مشتركة على صعيد المنطقة، تمكن من استغلال الثروات الطبيعية التي يتمتع بها الفضاء المغاربي (الغاز، النفط، الفوسفات، السمك)، والاستغلال المشترك للثروات المحاذية للصحراء (الحديد)، وتطوير الإنتاج الزراعي، .. إلخ.
وتحتل التجارة الباطنية أو الموازية مكانة رئيسية في حركة التجارة البينية المغاربية، ووجود مثل هذه التجارة الباطنية، يدل على وجود إمكانية تكامل حقيقي بين الاقتصاديات المغاربية. ولكن، لكي تحقق البلدان المغاربية تكاملاً اقتصاديا إقليميا، وتنمية حقيقية للتجارة البينية المنظمة، يترتب عليها أن تحقق تنسيقا كبيرا في سياساتها الاقتصادية، وإيجاد مشاريع مشتركة، في المجالات الصناعية الاستراتيجية في الصناعة والزراعة والخدمات، وإعادة تشكيل هياكل الإنتاج الزراعي والصناعي، وإيجاد منطقة تبادل حر، واتحاد جمركي موحد، فهذه العوامل مجتمعة تشكل دافعاً قوياً لتنمية التبادلات التجارية المغاربية البينية.

غياب دور القطاع الخاص
غير أنّ ما يشدّ الانتباه في تجربة الاتحاد المغاربي هو الغياب الكلّي، أو شبه الكلّي، للقطاع 
الخاص المغاربي في عملية البناء، والحال أنه هو القطاع الذي تدفعه المتغيّرات الاقتصادية الدولية في ظل العولمة الليبرالية إلى التحوّل إلى الفاعلية الأساسية في عملية بناء الاقتصاديات الوطنية، والاقتصاد المغاربي ككل. لكن هذه الفئة الاجتماعية من الصناعيين، والمزارعين، والتجار، وأصحاب المؤسسات الخدمية الأخرى، والمرشّحة، على الأقل نظريًا، لأن تلعب هذا الدور الريادي، توارت عن الأنظار، ولم تبذل منظماتها أي جهد جاد، لا على الصعيد السياسي، ولا على الصعيد الاقتصادي، لحلحلة الوضع، وللضغط من أجل تجاوز حالة الجمود التي يعيشها الاتحاد منذ أواسط العقد الماضي، والتي كانت لها آثار بالغة السلبية على مصالحها الآنية والاستراتيجية.
لقد نشأ القطاع الخاص العصري في هذه البلدان المغاربية في ظل مؤسسات الدولة، ونما بفضل المساعدات والقروض والحوافز والتشجيعات التي وفرتها. ولذا، فإنّ عملية التحرّر الاقتصادي، والتي تعني في الجوهر استقلالية هذا القطاع، تأثرت، ولا تزال تتأثر، بمخلفات هذه العلاقة وتداعياتها على تصرفه ومسار تطوره الاقتصادي والسياسي، الأمر الذي عطل، ولا يزال، بلورة الرؤية الجديدة التي تحكم علاقة الطرفين.
هذا المعطى يفرض على الطرفين كليهما مجهودًا خاصًا، فالقطاع الخاص لا يمكن أن يحقق استقلاله، ويلعب الدور المناط بعهدته، لا للتأثير في المجال الاقتصادي فحسب، بل في المجال السياسي أيضًا، إذا لم يعمل على التخلص من سلبيات المرحلة السابقة، وذلك بنبذ عقلية التواكل على الدولة، والتعويل على النفس، والوعي بأنّ حرّية المبادرة تعني أيضًا سعة الخيال والإبداع، واستنباط آليات التوفير الذاتي. باختصار، يتعيّن عليه أن يتحرّر من عقلية القاصر، كما على مؤسسات الدولة أن تتحرّر من منطق الوصاية، وأن تمارس النظام العصري في علاقة الإدارة بالفضاء الاقتصادي. لكي تدفع العلاقة بين الطرفين في الاتجاه الذي سيعطي القطاع الخاص فاعلية أساسية في عملية التنمية والتغيير الديمقراطي التي ستبقى رهنًا بمدى نجاحه في تحقيق استقلاليته وإعادة ترتيب علاقته بالدولة وبالفاعليين الاجتماعيين، وفي مقدمتهم الحركة النقابية.
أخذا لهذه المعطيات في الاعتبار، يمكن فهم سرّ محدودية دور القطاع الخاص المغاربي في عملية بناء الاتحاد، فهو لا يزال يواجه في الواقع ضغوط هذه المرحلة الانتقالية وتحدياتها. وهنا نقف مرّة أخرى على العلاقة الجدلية بين التقدّم على الأصعدة الوطنية والتقدم على الصعيد المغاربي. ويعني ذلك أن تحوّل أرباب العمل المغاربيين إلى فاعلية أساسية في المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي، على الصعيد المغاربي، سيبقى رهنًا بمدى قدرته على كسب الرهانات المشار إليها على الأصعدة الوطنية، وبمدى قدرة "القطاع الخاص المنتج" على أخذ زمام المبادرة، وكسب موقع الريادة في عملية التحوّل الاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها المنطقة، والعمل على تأسيس شراكة مغاربية جديدة، أسوة بالطريق الأوروبي.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة