حداثتنا المشوهة

حداثتنا المشوهة

20 فبراير 2018

(حسين مير)

+ الخط -
عملت الحداثة ذات المركزية الأوروبية على اختراق العالم الثالث، عبر التجربة الاستعمارية، بشكل لا يمكن مقاومته، وفرضت نفسها بصفتها الطريق الوحيد إلى المستقبل أمام هذه الدول. وفرضت هذه الحداثة مفاهيمها في الإطار الكوني، فاستمدت الثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة العربية، مفاهيمها من التجربة الأوروبية للحداثة. فغزت الحداثة الواقع والعقل العربي معا، كما غزت كل المجتمعات البشرية. وعمل هذا الغزو على تبدل رؤية المجتمعات إلى العالم. لم يشكّل هذا الغزو في التجربة العربية قطيعةً مع الماضي الذي خيّم بكل ثقله على هذه التجربة. في الوقت الذي شكلت القطيعة مع الماضي جوهر التجربة الأوروبية الحداثية، بصفة الحداثة تأخذ مشروعيتها من المستقبل، وليس من الماضي. ولا يعود إخفاق التجربة العربية إلى عدم الأخذ بالحداثة، إنما لسبب معاكس، هو أن الحداثة التي أخذ بها العالم العربي، واستنبتها في تربته، لم تنتج القيم نفسها، ولم تؤدِ الوظائف نفسها التي وجدت من أجلها، والتي كانت منتظرة منها. ومن هنا مفارقة وجود أشكال حديثة، لكن من دون أن نتمكن من امتلاك الحداثة.
منذ بداية التوسع الاستعماري الأوروبي، فرض النموذج الغربي نفسه، ومنذ القرن التاسع عشر، فرض نفسه نموذجا عالميا. وحسب محمد عابد الجابري، فرض هذا النموذج الحضاري الجديد نفسه علينا بوسائله هو: فمن التبادل التجاري غير المتكافئ، إلى التدخل في الشؤون المحلية بذريعة الدفاع عن حقوق الأقلية، أو حماية مصالح معنية، إلى الحكم المباشر، إلى الهيمنة
الاقتصادية، والسيطرة الثقافية الأيديولوجية. والنتيجة من ذلك كله: غرس بُنى النموذج الغربي في بلداننا، في الصناعة والزراعة والتجارة والإدارة والثقافة، وربطها بالبنية الرأسمالية الأم في أوروبا. هكذا وجد العرب أنفسهم، كما وجدت الشعوب المستعمرة كلها نفسها، أمام عملية "تحديث" كولونيالية لبعض القطاعات في المجتمع، وهي التي تهم المستعمر أكثر من غيرها. عملية "تحديث" لم تستنبت أسسها في الداخل، بل نقلت من الخارج جاهزةً وغرست غرساً، بالإغراء أو بالقوة، في مجموعةٍ من القطاعات التي أصبحت، بعد الاستقلال، الهياكل الأساسية للدولة الحديثة في بلداننا.
ولد مصطلح الحداثة في التجربة العربية باعتباره دعوة إلى تحقيق الانتقال الذي لم ينجز في الواقع الموضوعي، ما جعله مطلبا مستقبليا، في الوقت الذي عبرت الحداثة في موطنها الأصلي عن حالة قائمة، على اعتبار أن الحداثة، في سياقها الأوروبي، ليست مشروعاً كالنهضة، إنما هي سياسة وممارسة يومية، هي تغييرٌ في كل الاتجاهات لبنى الواقع والفكر، ما جعل نشوءها مستقلا عن الوعي بها، فهي عملية أيديولوجية واسعة ومفتوحة، لها معالم محدّدة، لكنها لا تنتظم في إطار نظريةٍ يمكن المناداة بها في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما هي عملية تخترق المجتمع بكل بناه. لذلك تبقى الدعوة إليها هدفا نسعى إلى تحقيقه، دعوة تخترقها ثغراتٌ لا يمكن سدّها، لأن الحداثة مجموعة من التراكمات الجزئية التي يؤدي تراكمها إلى إنتاج واقع موضوعي حديث، فهي عملية متحولة في أشكالها ومضامينها، في الزمان والمكان، فهي ليست ثابتةً وغير قابلة للرجوع إلا إلى منظومة من القيم. وبما أنها ليست مفهوماً يصلح أداة للتحليل، فإنه ليس هناك قوانين للحداثة، بل هناك معالم للحداثة. ليست هناك أيضاً نظرية في الحداثة، بل هناك منطق للحداثة وأيديولوجيا للحداثة. وإذا كانت الحداثة نموذجاً لمفهوم "حديث"، وإذا كانت الأيديولوجيات هي التعبير عن الحداثة، فإن الحداثة نفسها بدون شك ليست إلا عملية أيديولوجية واسعة، على حد تعبير جان بودريار.
يشرح هشام شرابي أن المجتمع العربي يعيش في ظل خطابين، ويعاني من الانفصام، خطاب الحقيقة الشاملة الكلية التقليدية، وظل خطاب الحقيقة الحديثة المحدودة. وأنه أصبح عاجزاً عن التعامل مع أي منهما بشكل عقلاني ومنظم، يمكّنه من إرساء علاقته بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، من خلال وعي ذاتي مستقل. وبهذا، فهو مجتمع متضارب، تحكمه التناقضات على صعيد الفكر، كما على صعيد الممارسة. كما أن ارتكاز عملية التحديث إلى عامل خارجي يؤثر في تطوره الداخلي، فيدفعه إلى التحول، فما أن تنطلق عملية "التحديث" حتى يتشوّه التطور الذاتي الداخلي، فيتخذ شكلا لم يكتمل نضوجه. ليس هذا التشوّه الملازم لعملية "التحديث" ناتجاً عن تعثر داخلي فقط، بل عن تأثير العامل الخارجي أيضا. وفي ظل هذا العامل الخارجي، فإن نجاح عملية التحديث نفسها يشكل إعاقةً متى جرت تلك العملية في إطار التبعية والخضوع. ولأن أوروبا كانت السباقة إلى التحديث، ففيها فقط كان التحول إلى الحداثة ذاتياً، وبالتالي أصيلاً. وفي كل الثقافات الأخرى، جرى التحديث في ظل أوضاع تبعيةٍ، أدت إلى حداثةٍ مشوّهةٍ زائفة. التناقض الداخلي والتبعية الخارجية دفعا الحضارات غير الأوروبية إلى اتخاذ أنماط مشوّهة مختلفة من النمو التحديثي. وفي مثل هذا التشوّه، تتعايش التقليدية الأصيلة وأشكال من الحداثة، بالقدر نفسه الذي تغيب هذه التقليدية، وتغيب الحداثة الحقة. ويعبر عن ذلك استمرار القيم التقليدية، والممارسة الصنمية للحداثة. وهنا يصبح التشكيل الاجتماعي يعاني انفصاما حضاريا، حسب شرابي.

المجتمع الحديث، بتعبيرات مارشال بيرمان، "أصيل ومنفتح، وليس اقتصاديا فحسب، بل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أيضا، بحيث يتمكّن الناس من التسوق، وعقد أفضل الصفقات بحرية، ليس من باب البيع والشراء فحسب، بل من باب الأفكار والارتباطات والقوانين والأنظمة الاجتماعية". بالتأكيد نحن نقف على مسافةٍ من المجتمع المفتوح المعبر عن الحداثة. وفي هذه الأوضاع، هل نرتكب إثماً، وهل ننتمي إلى زمنٍ بائد، في ظل نقاش ما بعد الحداثة القائم في الغرب، والذي أصابتنا عدواه، إذا استعنا بالفيلسوف الألماني كانط، وقلنا إننا بحاجة إلى التنوير الذي "هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر خارج قيادة الآخرين. والإنسان مسؤولٌ عن قصوره، لأن العلّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار، وفقدان الشجاعة على ممارسته، من دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك، ذلك هو شعار عصر التنوير". على الرغم من قدمه، يشبهنا هذا النص إلى حد التطابق.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.