دعوة إلى إنقاذ السودان

دعوة إلى إنقاذ السودان

16 فبراير 2018
+ الخط -
يعيش السودان حاليًا أياما عصيبة. تجمعت كل رزايا الحكم فوق رأسه، وعليه تحملها، وبات السودان يقف فعلا على حافة الانهيار، أقله اقتصادياً، وهذا الواضح للعيان. لأول مرة، خرجت الأحزاب من مقارّها إلى الشارع ليعلو صوتها بعد سنوات طالت، وكأنها تستعيد ذاكرة الزمن القديم في منافحة الاستعمار البريطاني. واختارت أن تلعب اللعبة بأصولها الحكومية، وعلى ميدان هامش الحرية المحدود جداً، واحتمت في حراكها بالنصوص الدستورية المكفولة للتظاهر، مستوفية كل المطلوبات الأمنية المتاحة. ووفق خريطة حُدّدت، بوضوح شديد، اختارت الأحزاب مسارها بداية وانتهاء. على أن الأمر الوحيد الذي نجحت فيه أحزاب المعارضة هو تسجيلها مقارعتها الأولى للنظام سياسيا وبأصول لعبته، فقد حرّكت هذه التظاهرات الاحتجاجية حجرا في بركة الأحداث السياسية المتلاحقة في السودان، وبدا أن الشارع يصحو من غفوته، مدركا أن عليه أن يغير من الأساليب التقليدية والمجربة التي تمكن عبرها في السابق من إسقاط نظم شمولية مشابهة. على أن كل شيء بدا هذه المرة مختلفا، فلا خلاف بين الغالبية العظمى من الشعب على أن الغلاء بات يطحن الجميع، وساوى بين الغالبية العظمى من السودانيين. لكن ما تغير ويجعل الحراك قويا أن التركيبة المجتمعية قد تغيرت، وبشكل كبير ومذهل في كل المدن، فلم تعد في السودان تلك الحركة النقابية ذات الوزن، والتي كان في استطاعتها هز البلاد من أقصاها إلى أقصاها حينما تحتج، وحينما تجتمع على الخروج إلى الشارع يتهاوى النظام كله بضربة نقابية قاضية، فيحدث التغيير.
وغابت كذلك الطبقة المثقفة المؤثرة ذات الوزن التي توزعت بين غالبيةٍ أرغمت على الخروج من باب السودان الكبير إلى المنافي، وأقلية تعاني مما تعانيه غالبية أهل المؤهلات أو الإنسان العادي من مسغبة وتشرد وبطالة ولهاث بلا انتهاء في متاهة كسب العيش اليومي، وتأمين 
الرزق. وحتى الأحزاب التي خرجت محتجةً، يعاني قادتها من الهرم وبطء الحركة، وتعجز عن طرح بديلٍ لا يُراد له ملء الفراغ فحسب، وإنما إقناع غالبية الشباب من الجيل الذي لا يرضيه النظام الحاكم، ولا تدخل في مزاجيته وأحلامه فكرة عودة الطائفية التي لا تزال تشكل غالبية الحراك المجتمعي الفاعل.
وتجيء رؤى الشباب وطموحاته حاملة تناقضاً كبيرًا مع طرفي الصراع الرئيسيين، حكومة ومعارضة، فالشباب الذي نشأ وترعرع في ظل الحكم الحالي الذي يقضي عامه التاسع والعشرين يشق طريقا مختلفا برؤى وأحلام تستمد بعضها من ثقافة الديمقراطية وروح العصر في عالم ما بعد الثورة الصناعية، مقتحما عصر الثورة العلمية والتكنولوجية من أوسع أبوابها، فمن ناحيةٍ، تتجاوز مطالبه الواقع السياسي، بتفاصيله التقليدية، لينشد خروجا مختلفا مما يعرف سودانيا بالدائرة الشريرة للحكم ( انقلاب عسكري – ثورة شعبية – انقلاب). بصورة أخرى، يرتاد الشباب بابا صنع بأيديهم وثقافتهم المختلفة عن أجيال سابقة. وحتى وسائل تعبيرهم عن الرفض للحكم الحالي جلها يخرج عبر الوسائط الاجتماعية، من أغانٍ ثورية رافضة للحكم، وبلغات مختلفة، محملة بأمنيات ورؤى لنظام جديد ديمقراطي ومختلف. تدور حوارات حقيقية في مواقع التواصل الاجتماعي عن البديل، وهذا ما يزعج الحكومة حقيقة، فنجدها تلهث وراء ضبط إيقاع التدفق الهائل من المعلومات وتأثيره، وموضوعها الرئيسي من تسريباتٍ لا تنتهي عن الفساد في أروقة الحكم. وهناك أيضا تصاغ أساليب جديدة في المقاومة والبحث عن البديل يستمد بعضها جذوره من موروث الحركة الثورية في السودان، ويضيف إليها أدواتٍ من الموروثين، العالمي والإقليمي.
تعكس هذه الصورة واقعا غريبا، لا يمنح أفقا للحديث عن تغيير محتمل، وفق السبل المجربة 
تاريخيا في السودان، ويؤكد، في الوقت نفسه، أن قطار الحكومة قد خرج عن الخط تماما. ويظل هامش الحرية تتحكّم فيه السلطة بشكل تام، فيما هامش مواقع التواصل الاجتماعي متسع، وبلا حدود لكل أشكال المعارضة، فالحكومة تمنح الحرية للتظاهر استنادا إلى القانون، لكنها تقمع الحراك الشعبي بقسوة مفرطة، وتنفذ حملة اعتقالات غير مسبوقة منذ سنوات. تعلن الأحزاب عن خروجٍ مأذون، فتسارع قوى الأمن باحتلال المكان، وبوجودٍ يفوق عدد المتظاهرين نفسه.
ويلاحظ أن الحكومة السودانية اهتمت كثيرًا، وانشغلت بثورة الشارع والاعتقالات والخوف من انهيار النظام بأكثر من اهتمامها بالأزمة الاقتصادية الخطيرة المهدّدة للسودان ومستقبله، فالأزمة الحالية حقيقية وحادة وغير مسبوقة، وباتت تمشي بين الناس، وتبدو أكبر من أن تواجه بمجرد إجراءات اقتصادية تتخذها الحكومة، ولا أحد خارج دائرة الحكم يدري حقيقة ما يجري. ولطالما سيطر حزب المؤتمر الوطني على الحكم، وترك جميع مفاتيح الحكم في يد قلةٍ تتداول كراسي السلطة فيما بينها، وعبر عقود ثلاثة تقريبا، فمن الصعب أن يدرك من هم خارج هذه الدائرة حقيقة ما يجري. ويزيد هذا من تعقيد الأزمة الاقتصادية الحالية، فالغموض سيد الموقف، والشعب كله على هامش دائرة القرار. وهنا يتضح وجه الأزمة الحقيقي، فالحكم عاجز عن تسيير عجلة الاقتصاد، ومالية الدولة ينضب معينها. وتقول المؤشرات الاقتصادية، مضافا إليها الفساد المتجذر، إن الدولة تتجه نحو الإفلاس التام.
ويلاحظ كذلك أن كل التعليقات والمخاوف على مصير الاقتصاد السوداني تأتي من خارج دائرة الحكم، فيما تلوذ الحكومة بصمت مطبق، وتوحي خطواتها المرتبكة بأن الأمور أفلتت من يدها، وبدرجة أن أفضل ما صدر عنها في الأزمة الحالية ليس استبدال الأطقم الاقتصادية والمالية لعجزها وتخبطها، وإنما خطوة مدهشة في غمار الأزمة، باستبدال رئيس جهاز الأمن القومي القديم بآخر جديد قديم. ومن الناحية الأخرى، كاد كل الدوائر الاقتصادية السودانية من خارج أروقة الحكومة تتفق على خطوة واحدة ضرورية وملحة لإنقاذ البلاد، قوامها أن تتشكل حكومة إنقاذ للسودان من قبضة حكومةٍ تسلمت السلطة ذات يوم، تحت مسمى فضفاض "حكومة الإنقاذ".
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.