الشك الخلاق

الشك الخلاق

12 فبراير 2018
+ الخط -
يدرك من كانوا مقربين من الشاعر الراحل، محمود درويش، مقدار ارتيابه فيما حققه من منجز شعري، على الرغم من الشهرة غير المسبوقة التي نالها، ويعرفون جيدا مدى حساسيته، وتردّده بشأن الظهور في وسائل الإعلام، وما كان يصيبه من ضيق وارتباك قبيل الظهور على أي شاشة. وكذلك مدى رهبته تجاه ذائقة المتلقي التي كانت تؤرقه عند كل إطلالة في المدن والعواصم التي جال فيها، مقدّما أمسياته الشعرية ذات الجماهرية الواسعة. وفي جلساته الخاصة، كان درويش ينفر ممن يبالغ في كيل المديح له، ويعتريه الخجل وعدم الارتياح جرّاء تسليط الضوء عليه أينما حل، وهو الذي عبّر، طوال حياته، عن احترام كبير لمهمته شاعرا ومفكّرا ومتأملا، ما يؤكد إحساسه بالمسؤولية الكبيرة تجاه المفردة، ووعيه المتقدم بقوة تأثيرها. لم يتعارض ذلك كله، بطبيعة الحال، مع الثقة العالية بالنفس التي ميزت شخصية الشاعر الكبير، وهو الذي ترك ميراثا استثنائيا من الجمال والمعرفة، جعلت تجربته تتجاوز نطاق الجغرافيا العربية، وتصنف ضمن الإرث الإنساني العالمي.
لم يختلف الروائي الأردني، مؤنس الرزاز، الذي تمر ذكرى رحيله هذه الأيام، وهو الذي أضاف إلى مكتبة الرواية العربية حصيلة من الأعمال الروائية المهمة، وإن ولم يحز الشهرة والتقدير والاعتراف الذي يستحق خارج حدود الأردن. تميز مؤنس بالخجل والتواضع والبساطة. ودائما كان الشك ملمحا أساسيا في تعاطيه مع ما قدّم من أعمال. ولم يفتقر الرزّاز إلى الثقة الكبيرة بالنفس المتأتية من عمق معرفي وثقافة واسعة واشتغال دائما على تطوير أدواته الإبداعية، وعدم الركون إلى اليقين المدمر بالكمال، وهذا ما حفزه باستمرار لتحدي نفسه، والعمل على الإتيان بالمختلف والمتفرد.
أما الممثل المثقف، أنتوني هوبكنز، الذي قدم أدوارا مركبة صعبة، كان أبرزها فيلم "صمت الحملان"، فأحرز جائزة الأوسكار، فيكفي أن نستمع إلى أحد حواراته العميقة التي تطلّ على سيرته ومواقفه ورؤاه وتأملاته الفلسفية، كي نتيقن من أننا بصدد عبقريةٍ من نوع فريد، تنتمي إلى مدرسة الشك الخلاق نفسها. في المقابل، ثمّة نماذج غريبة عجيبة، شديدة الشيوع في زماننا الملتبس هذا. لم يتجاوز الواحد منهم مرحلة العشرينيات، لديهم مواهب متواضعة، ضئيلة الشأن. ومع ذلك، وبين ليلة وضحاها، وبفضل بركات "السوشيال ميديا" تحولوا إلى نجوم مكرّسين (خاتمين العلم) يفتون في كل شيء، ويطرحون أنفسهم، بكل جسارة، نقادا ومفكرين ومحللين ومنظّرين ونشطاء، يهذربون بما لا يفقهون. وتعزّز ردود فعل لبسطاء سذّج في الفضاء الأزرق من غرورهم، وفائض الثقة المضللة التي تصيبهم. يفرطون في الاطمئنان، ما يفضي بهم إلى الإفلاس المبكر، غير مدركين أن اليقين الكامل هو المقتل الحقيقي لكل مبدع، وهو مصيرٌ يفضي بصاحبه إلى العجز عن الابتكار، والامتلاء بوهم التربع على قمة المجد التي ستقوده إلى حتفه الإبداعي، وإلى الوقوع في مطب التكرار والنمطية والملل والاستسهال، سعيدا راضيا عما قدمه ومكتفيا به، ما يثير تساؤلا مشروعا بشأن المدة الزمنية القياسية التي حقق فيها هذا التراكم من التجربة والمعرفة المطلوبة لتعزيز الموهبة، والبناء عليها، والسعي إلى تحقيق الأفضل، بعيدا عن الاستخفاف بثقافة المتلقي، وقدرته على التميز، متجاهلا بسبب تضخم الذات المرضي بأن التواضع مفتاح أساسي في حياة أي مبدع، وهو بمثابة جواز سفر إلى عقول الناس وقلوبهم، سيما إذا كان مسلحا بالموهبة الحقيقية، والثقافة العميقة، والرغبة الحقيقية في خوض السباق المستمر مع الذات، ما يجدّد الطاقة ويصقل الموهبة، ويهذب النفس الطائشة المتعجلة الأمّارة بالغرور والجهل، في أحيان كثيرة.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.