معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة.. لحظة فارقة

معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة.. لحظة فارقة

10 ديسمبر 2018
+ الخط -
معدودة هي اللّحظات الفارقة في تاريخ البشريّة، وقد جسّدت في حينها منطلقاتٍ لتحوّلات كبرى ارتقت فيها أمم، وجمدت أخرى، وتراجع بعضُها، أو فقد كثيرًا من معاني وجوده. غير أنّ تلك اللّحظات اقترنت، في جوهرها، بتكوّن أمّةٍ ما امتلكت وَعْيًا عميقا بذاتها؛ وَعْيًا بأنّ وجودها ذو قيمة، بما يُهيّئها للنَّظر في حقيقة ذلك الوجود، وتفهُّم معناه، وتأمّل علاقتها بنفسها، وببيئتها، وبمقدّراتها، وعلاقتها بالعالم من حولها، وتستعيد تبعًا لذلك كلّه هُويّتها الجامعة. ولم يكن ذلك ليتحقّق، لأيّ أمّة من الأمم، لولا شرطان أساسان: أوَّلهما لسانٌ يجمعُها ويمكّنها من فهم ما تقدّم كلِّه، والآخر نظامٌ يُعينها على تأطير تلك المقدّرات من ثرواتٍ فكريّةٍ وبشريّة وطبيعيّة، في فضاء زمنيّ ومكانيّ يتحقّق فيه حيّز عامّ يشترك فيه الجميع، ويمنحه الجميع، ويحرص عليه الجميع؛ لأنّه لكُلِّهم، وبكُلِّهم، ومن كُلِّهم، مع الحفاظ على الحيِّز الخاصّ لكلّ منهم.
وإذا كانت اللّغة هي الرّكن الأساس للهُويّة، وهي الفكر ذاته، لا وسيلة إنتاجه أو توصيله وإشهاره حسبُ، فإنّ وجودَها شرطٌ لوجوده، ووحدة صورتها شرطٌ لتمثُّله وتأصُّله. وإنّ انكشاف تلكَ اللُّغة على الذّات الجمعيّة أهمُّ لحظةٍ لكي تعي الذّات نفسها. وقد غَبَرت علينا، نحن العربَ، قرونٌ في غيابِ هذا الوعي، تبلبلت فيها ألسنتُنا، وصارت لهجاتُنا المحكيّة آنس وأقرب، وفرّقتنا عقود من الاستعمار، لا في الحدود والهويّات حسبُ، إنّما انطبقت علينا قولة ابن حزم "والمغلوب مُولعٌ أبدًا بتقليدِ الغالبِ" حتّى في اللسان، فانقسمنا بين مُتَفَرْنِسِين، ومُتَنَكْلِزِين، وسائرِ ما كانَ، أو هو كائن.. وصار الفتى العربيّ منّا يدخلُ شِعابًا شتّى، في بلادِه، هي أقسى عليه من شِعْبِ "بَوّان" على المتنبّي، حتّى بات العربيّ "غريبَ الوجه واليد واللّسان" وهو في رُبوع الدّيار.

كانت لحظة التّدوين في تاريخنا العربيّ تنويريّة، مع أنّها لم تُمَكَّن من الدّيمومة، لكنّها أسهمت ذاتَ حينٍ في رسم معالم الوجود في عين الإنسان العربيّ، وفتحت أمامَه مغاليق الدُّنيا فكرًا وثقافة ووعيًا بالطّباع والعادات، كما انفتحت أمامه آفاقُ المسالك والممالك، فارتحلَ فيها مُغَالِبًا، أو رحَّالةً يجوبُ وَيَرْوي عَجائب مُشاهداتِه. وقد صحبَها تكوينٌ للعقل العربيّ، وفقَ أُطر حدّدت معالمه ومشارب ثقافتِه في صراعٍ عميقٍ بين علوم الأوائلِ وما اسْتَجَدّ منها، وبين تقليدٍ اتّباعيّ لا يحيدُ ألبتَّة عن النّقلِ، وتجديد منضبطٍ يرى في الأصول ثوابت وفي شؤون الحياة ما يستدعي النَّظر والبحث والتّرجمة والتّأثّر والإبداع. ولم تكن اللّغة بعيدةً من هذا الصّراع، إنّما كانت في لبّه المحتدم كَما تخبرنا مناظرةُ السّيرافيّ النّحويّ مع متّى بن يُونس القُنائيّ، وقولةُ القائلِ حين مرّ ببعضِ المتناظرينَ في النّحو: "أسمع قومًا يتكلّمون في كلامنا بكلام ليس من كلامنا".
وينكشف التّاريخ العربيّ عن لحظاتٍ اتّحد فيها الرّسميّ بالشّعبيّ، وارتقت الفنونُ صُحبةَ العلوم، وانشعب التّفكير ليخوضَ في دقائق خَفِيَّة، من دون أن يتنكّر لذلك أحد، أو يحاكم عليه أحد.. وعن لحظاتٍ أخرى انفصل فيها الرّسميّ عن الشّعبيّ، وافترقا حتّى في الذّوق والدّعابة والاهتمام وأساليب الكتابة وصنوف الفنون. وتحدّثنا مصادر التّاريخ عن مساراتٍ موازيةٍ للفصلِ بين العامّ والخاصّ في الارتقاء، وتغوّل الخاصّ على العامّ في الانحدار. كما تصوّر لنا مصادر الأدب والبحث اللغويّ والفقه والفلسفة والكلام شيوعَ ثقافةٍ رصينةٍ تصاحبُ لحظاتِ الرُّقيّ، حتّى كان إتقان العربيّة والبراعة في أدبها وحُسن الكتابة بها مدخلًا لغير العرب ليتعرّبوا ويكونوا جزءًا من الواقع الحضاريّ للأمّة، وعن شرخٍ حادّ بين ثقافتي الخاصّة والعامّة، وأدب أولئكَ الرّسميّ الّذي بلغَ حدّ إعداد قصيدة واحدةٍ للمديح/ الرِّثاء تصلح بتغيير اسم الممدوح/ المرثيّ لِعِدّةٍ، و"آداب" هؤلاء المتنوّعة التي "تستبيح محرّمات" اللّغة، و"تنتهكُ حدودَ" الرّصانة، حتّى إذا ماتت بَغْلَةُ أحدهم "وقف على قبرها سبعون شاعرًا يرثونها"، ألَم يكن ذلكَ قرينَ وَصْم العربِ "أولاد النّاس" في عصر الممالك؟ في لحظات الرّقيّ، عاش كثرة من المختلفينَ فائتلفوا وتحاوروا بلسانٍ يجمعهم، وتقبَّل بعضُهم بعضًا، وفي لحظات الانحدار قُتِل المختلفون وصُبَّ صَهير الرّصاص في بطونِهم، وشُوِيَ بعضُهم في الأفرانِ، أحياء، وتبلبلتِ الفُهومُ كما تبلبلت الألسنةُ والقلوبُ والعقول والهِمَم والقِيَم.

واليوم، العاشر من ديسمبر/ كانون الأول سنة 2018، يُطلقُ مُعجم الدّوحةِ التّاريخيّ للّغة العربيّة؛ أوّلُ مشروعٍ في بابِه تَخَطّى عتبة النّجاح، واخترق حاجزَ الإنجاز، في أعقابِ مشاريع كثيرة فشلت، لأسباب متنوّعةٍ ليس هذا مجالَ سَرْدِها. ويمكنُ القولُ بثقةٍ تامّة: إنّها لحظةُ التّدوين الجديدةُ في حياة الأمّة، اللّازمةُ شرطًا لتعي الأمّة ذاتها، وتترسّم معالم وجودِها على مدارِه العتيق الممتدّ. وإذا كانت لحظة التّدوين في القرنين الثّاني والثّالث الهجريّين قد جسَّدَت وعيًا بالعقلِ العربيّ المُكوَّن في القرنينِ السّابقين، ولم يُكتَب لها البقاء لفقدانِ سيطرة العربِ على مقدّرات وجودِهم، فإنّ لحظةَ التّدوين الجديدةَ تمنحُ الفرصة من جديد لإعادةِ تكوينِ عقلٍ عربيّ لا يقطع مع تاريخه بكلّ ما فيه، وَلا يتنكّر له، بل يفهمُه ويعيه وعيًا ناقدًا موضوعيًّا، ويُراكم عليه، معترفًا بما فيه من تنوير وأصالة، ويُتيح للأمّة امتلاك لسانٍ عربيٍّ واحدٍ من جديد، لكلّ كلمةٍ فيه معناها الّذي يحدّده سياقُ استعمالها، ومفهومُها الّذي لا بدّ من تمثّله، لتقترنَ به في تواصل أبنائها وتفاهُمهم في الحياة، وليكون تفكيرُهم ونتائجُه بلغةٍ واحدةٍ يألفونَها جميعًا ويفهمونَها. كما أنّ هذه اللّحظة الفارقة، إذ ينطلق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية في الفضاء الكونيّ، جنبا إلى جنب مع المعاجم التّاريخيّة العالميّة الأخرى، لا بدّ أن تشحذ عزيمة الأمّة كي تخاطب الآخر بنِدِّيَّة واعية، وبإدراكٍ لما آلَ إليه العالم من رُقيّ، ينهل من العلم التّجريبيّ، والفكر العَقْلانيّ الاستقرائيّ، وهو نهجٌ لا بدّ لها من سلوكه والانفتاح على مناهجه ورُؤاه.
ليسَ من الإنصافِ القول: إنّ الوجودَ كلمات، فهو أعمّ منها وأوسع وأشمل، لكنّها مفاتيحُه، ومَن امتلك القدرة على تسمية الأشياء والأفكار امتلكَها. لا نُهوضَ بدون أمّة، ولا أمَّة بدونِ وعي بهُويّة جامعة، ولا وعيَ بدون فِكر، ولا فكر بدون لغة، ولا لغة تبلبلت ألسنة أهلها، وتشتّتت مفاهيمهم لألفاظِها.. من هنا كان معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيَّة الأمل المنشود في تحقيق مسارٍ تسترجعُ في خاتمته الأمّة معنى وجودها وقيمتَه، ولن يكتمل ذلك بصدور المعجم وحده، إذ إنّ نشره في الآفاقِ، وتشجيع البحث فيه، وتعميق تواصل الجمهور معه، وإدخاله في منظوماتِ التّعليم العامّ والعالي، ومراكز البحوث والدّراسات، ومحرّكات البحث، وبرمجيّات القراءة مثل "كِنْدِل" (وهي عربيّة الأصل، منقولة بتعديل في اللّفظ يتناسب مع عجمة من نقلها من لفظ قِنْدِيل العربيّ، الَّذي جعله معجم الدّوحة التّاريخيّ مفتاحًا لكلّ مدخل معجميّ فيه) ستُعجّل من تحقيق نتائجه، وتفعيلِ آثارِه.

دلالات