صلاح الدين مجرماً!

صلاح الدين مجرماً!

17 ديسمبر 2018

تمثال صلاح الدين الأيوبي في دمشق (26/8/2011/فرانس برس)

+ الخط -
في الثقافة النقدية، التساؤل والنبش وإعادة القراءة عناصر أساسية. بل لا ثقافة نقدية من دون هذه العناصر. وفي الثقافة النقدية، لا حصانة لشخص أو لنص. وقد قدمت لنا الثقافة الأوروبية أمثلة عديدة على فعالية هذه الثقافة في بناء الأمم وقيام النهضة. في مواجهة حدّين طاغيين، ولدت الثقافة النقدية الأوروبية: سلطة الكنيسة وسلطة الملك، فضلاً عن ترافقها مع صعود طبقاتٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ، حضنت هذه الثقافة، وصنعت لها أرضا خصبة. وفي رأيي، ورأي كثيرين مثلي، أن سلطة الديني والسياسي حالت، عندنا، دون تكوّن ثقافتنا النقدية. هذا ما ترزح تحته، اليوم، الثقافة العربية.
أقول هذا لسبب محدد: تجدد الهجوم على صلاح الدين، بالشتيمة، وليس بالنقد أو البحث والقراءة الجديدة للتاريخ.
قطعاً، لم يكن صلاح الدين ملاكاً ولا بطلا مطلقاً، ولا هو قدّيس لا يطاوله الهوى والغرض والنزوع إلى المُلك، والتمكّن في الأرض. كلا لم يكن صلاح الدين، ولا غيره من رموز تاريخنا، كذلك. ولكن علينا أن نتذكّر أن الشخصيات والنصوص تنتمي إلى زمن وتاريخ. لا الشخوص ولا النصوص فوق التاريخ، أو لا يخترقها التاريخ. لكن الثقافة النقدية شيء، والشتيمة والصدور من هوىً ضيق شيء آخر. فأين النقدي في القول إن صلاح الدين أحقر شخصية في التاريخ؟ برأي الكاتب المصري يوسف زيدان الذي لم نسمع له رأياً في ديكتاتور بلاده البائس، أو في كونه "أكذوبة كبرى" في رأي الممثل السوري، عباس النوري، الذي لم يجد، وهو في بلد دمّره حاكمه المريض، وشرّد شعبه في أرجاء الأرض، غير تمثال صلاح الدين في مدخل دمشق!
لاحظت وأنا أبحث عن كلام عباس النوري، في الإنترنت، فيضاً، من تجريم صلاح الدين. لكن، ولا كلمة ممن يحقرون صلاح الدين، أو يجعلونه مجرم حرب يمكن تقديمه، بأثر رجعي، إلى محكمة الجنايات الدولية، لها وزنٌ نقديٌّ أو بحثيٌّ يعتد به. كما أنها كلها طالعة، حسب ظني، من انحيازات قوميةٍ حيناً وطائفية حيناً آخر، فكيف لآراء كهذه أن تؤخذ على محمل الجد؟ أو أن يكون لها دورها في بناء ثقافة نقدية. أتمنى أن أجد كتاباً يقرأ صلاح الدين، أو غيره من رموز تاريخنا، وفترته التاريخية على أساسٍ بحثي، أو تفكيكي. نحن نشكو ندرة هذه المؤلفات في ثقافتنا. ليس، فقط، بسبب حدّي الدين والسلطة، ولكن، أيضاً، لعدم وجود من يمكن له أن يتصدّى، علمياً، لمثل هذه الأمور. ليست الرغبة في النقد كافية لوجوده، بل لا بد من وجود أدواته. وهنا نشكو النقص وقلة الحيلة.
كتبت غير مرة عن صلاح الدين والسهروردي، صاحب مذهب الإشراق في التصوف، الذي قُتل بأمر من صلاح الدين في حلب.. هذه واحدةٌ من اللطخات في سجل صلاح الدين، فالرجل "المعروف" عنه التسامح والحوار مع عدوه في الدين والميدان، يصعب تصوره قاتلا لمفكر ومتصوف عظيم مثل السهروردي، أيا تكن "جنايته"، لكن المدافعين عن صلاح الدين، بحق ومن دون حق، ربما يجدون سببا، أو عذرا لصلاح الدين في هذه الفعلة. فأي "كبيرةٍ" ارتكبها السهروردي، لكي يعمل صلاح الدين في عنقه السيف؟
المؤرخون والإخباريون العرب الذين ترجموا للسهروردي أو تناولوا الواقعة: ياقوت الحموي، ابن أبي أصيبعة، الحافظ الذهبي، العماد الأصفهاني، يتفقون على نقطة واحدة: مناظراته مع فقهاء وعلماء حلب التي ابتدأت بالإعجاب به، نظراً لغزارة علمه وعمق معرفته، لتنتهي بإحاطته بالشبهات، وصولاً إلى إعدامه.
فقد تبين لهم، على ما يبدو، أن مذهبه الإشراقي الذي يدعو، من بين ما يدعو له، إلى التقريب بين الأديان، لا يوافق المواضعات الدينية والسياسية لتلك اللحظة التي كانت تتجه فيها الحروب مع الصليبيين إلى طور حاسم.
ينقل عصام محفوظ عن بعض هؤلاء الإخباريين قولهم إن حلب كانت منقسمة حيال السهروردي قسمين: قسم يؤيّده ويمشي في ركابه، وهؤلاء هم فقراؤها وبعض شيوخها وفقهائها المستنيرين وقسم يؤلّب عليه الملك الظاهر وأباه الناصر صلاح الدين، وفي عداد هؤلاء فقهاء حلب "الرسميين"، والمؤثرين في المزاج السياسي والديني السائد يومذاك.
نعرف أن القدرة على التسامح تتضاءل في أزمنة الحروب، فما نتقبله في وقت السلم قد لا نتقبله في الحرب، خصوصاً إذا بدا أنه قد يضعف "الجبهة الداخلية". وهذه ذريعة تبدو بعثية!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن