معجم الدوحة.. المشروع الخطير!

معجم الدوحة.. المشروع الخطير!

13 ديسمبر 2018
+ الخط -
بالهمم ترتقي الأمم، وإن كانت اللغات موضوع الهمم، فعلى قدرها من العمق والحاجة والسمو يكون الرقي. وفي معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الحدث العربي الثقافي الأهم في السنوات الأخيرة، تجلٍّ واضح لذلك!
تحت شعار "رب همة أيقظت أمة"، افتتح أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، صباح الإثنين الماضي بوابة إلكترونية رائدة في سياقها، هي البوابة الإلكترونية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، في احتفال أقامه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، باعتباره المركز الذي أطلق شرارة المشروع منذ خمس سنوات، وما زال مستمرا في تنفيذ خطواته المرسومة، وفقا لمراحل متتابعة تنتهي بعد عدة سنوات بإنجاز أول محاولة عربية لتوثيق مراحل حياة كل لفظ من ألفاظ اللغة العربية، ورسم ملامحها الدلالية المتغيرة.
المشروع ضخم جدا، ولا يمكن النظر إليه إلا باعتباره، بعد اكتماله بإذن الله، إنجازا تاريخيا نهضوياً عربيا، ولعله أحد أهم الإنجازات التي حظيت بها اللغة العربية في تاريخها. وأن ينطلق هذا المشروع من قلب الدوحة، ويقترن باسمها، وبرعاية كريمة من قيادتها، فهذا يعني أنها واعية تماما لدور الرهان الثقافي في بناء الأمة وتعزيز نهضتها!
ومعجم الدوحة للغة العربية، كما تعرّف به بوابته الإلكترونية، "صنف من المعاجم اللغوية، يتميز بتضمنه "ذاكرة" كل لفظ من ألفاظ اللغة العربية، يسجل فيها حسب المتاح من المعلومات تاريخ استعماله بدلالته الأولى، وتاريخ تحوّلاته البنيوية والدلالية، ومستعمليه في تحولاته عبر تاريخ استعمالاته، مع توثيق تلك "الذاكرة" بالنصوص التي تشهد على صحة المعلومات الواردة فيها".
ومن هذا التعريف، يتبين للمتابع حجم المعجم المتوقع عند الانتهاء منه بشكل تقريبي، ومدى الجهد الذي بذل وسيبذل فيه لتحقيقه على النحو المرسوم له سلفا، فهو من الضخامة، على كل الصعد، التي تجعلنا نتفهم أسباب تعثر المشروعات المشابهة لها في السابق، لكن نتائجه، في حال اكتماله، بل وحتى قبل اكتماله، ستطاول علوما لغوية ولسانية وتاريخية كثيرة. أما النتيجة الأخطر التي أتوقعها فهي تأثير الفهم الحقيقي الجديد لدلائل الألفاظ العربية في سياقاتها التاريخية، عبر المراحل المختلفة على تفسيرات النصوص الدينية التي تعتبر الحقل الأهم في تكوين ذاكرة الفرد والأمة اللغوية أربعة عشر قرنا من التاريخ العربي والإسلامي. ولن يتضح هذا الأثر الكبير وتتبين ملامحه الدقيقة، إلا بعد أن يصبح هذا المعجم أداةً لا بد من توفرها ضمن الأدوات البحثية لكل من يريد التصدي لقراءة النص العربي الديني، وإعادة النظر في تأويلاته المختلفة. وهذا سيحدث حتما، فلم يسبق أن توفرت هذه الأداة المعرفية التاريخية لفهم اللغة العربية، وطريقة تحولاتها الدلالية، باعتبار اللغة كائنا حيا قابلا للتغير والتحول والتبدل والنكوص والتطور.
وسيسهم هذا المعجم في إعادة النظر بتعريف مصطلح "اللغة العربية الفصحى" الذي ساد طويلا، وحرم العرب، والمتحدثين بالعربية عموما، من فكرة التعددية اللغوية، تحت جناح اللغة الواحدة، وهو ما عطل، كما أظن، وحصر التعامل مع النصوص التاريخية، الإبداعية والوثائقية، في نطاق ضيق، هو الفصيح المتعارف عليه من اللغة، واستبعاد ما سواه، وهو كثير وثري جدا.
ويتميز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بأنه معجم تأسيسي، ولكنه منفتح أيضا على المستقبل، وعلى النقد التفاعلي، ما يجعل منه مشروعا حيويا وتراكميا، بمعنى أنه لن يضع النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير منه، بل سيبقى قابلا للنمو وللتحول والتغيير.
في كلمته، في حفل إطلاق المرحلة الأولى منه، قال المدير العام لمشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، والمحرّك الرئيس له؛ عزمي بشارة: "لسنا أصحاب الفكرة، ولكنّنا نحن الذين امتلكنا الجرأة على بناء هذا المركب والإبحار به في بحر تاريخ اللغة العربية".. وفي هذا إشارة إلى أن الطريق شاق وطويل، لكن الوصول إلى نهايته ضرورة تحتمها معطيات التاريخ وشواهد الحاضر وآمال المستقبل.. وأهل المعجم قادرون على بلوغ تلك النهاية، بإذن الله.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.