بن سلمان في القاهرة.. حضور المنطق

بن سلمان في القاهرة.. حضور المنطق

28 نوفمبر 2018
+ الخط -

أن يأتي ولي العهد السعودي إلى القاهرة، في هذه اللحظة تحديدًا، فهذا هو المنطق حاضرًا ومعلنًا عن ذاته بكل صراحة ووضوح.

غير المنطقي هو ألا يحضر محمد بن سلمان، في رحلة البحث عن مكان يصلح لدفن النفايات الحضارية، وغسل الأيدي الملوثة بدم الشهيد جمال خاشقجي.. هنا الوجهة الصحيحة، في التوقيت السليم. هنا قاهرة عبد الفتاح السيسي، المقصد الأرخص لسياحة، وسياسة، ما بعد إراقة الدماء.

هنا، ستجد الراقصين والراقصات، يستحضرهم النائب ذاته الذي أتى بهم يرقصون ويغنون احتفالًا ببيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، ومن قلب ميدان التحرير، ميدان الثورة التي ذبحها العرش السعودي، كما ذبح شقيقاتها في اليمن وفي سورية، يهتفون: كله طوع بنان ملك السعودية، ولو أراد الأهرامات و"أبو الهول وأم الهول"، كما صاحت امرأة أمام الكاميرات، سنعطيها له.

هنا، بيع كل شيء، من التراب الوطني، والقرار الوطني، والكرامة الوطنية، هنا لا شيء أرخص من الدماء، تُسفك من أجل الزائر، أو تقام على شرف استقبال سافكها حفلات الرقص ومهرجانات الهتاف الخليع، على أطراف الميدان والبرلمان، فتنقل مباشرة عبر الفضائيات والصحف الأجيرة، تحت عنوان ثابت "مظاهرة حب في استقبال بن سلمان بالقاهرة".

هنا قاتل كبير، يستقبل قاتلًا أصغر، هنا ينصب كباريه السياسة فوق أشلاء الشهداء، وترتفع لافتات الترحيب فوق أعمدة صنعت من عظام الضحايا، من شهداء رابعة العدوية والنهضة وسيناء وحلب وتعز وصنعاء، هنا يمر القتلة فتبارك مجازرهم كنيسة وأزهر وبرلمان وإعلام وتجار وثائق تاريخية، تصنع وتباع كما تباع قطع الآثار ومنتجات خان الخليلي وفقرات اللهو الرخيص.

هنا قاهرة مصطفى بكري وهدى عبد الناصر التي يمكنها أن تهز أرشيف والدها فتستخرج منه قطعًا تزين ثوب الزائر، كما فعلت من قبل في قضية بيع تيران وصنافير، حين خرجت على الملأ بقصة، تنتمي إلى "فاتنازيا الأرشفة" تخلص فيها إلى أن والدها كاذب، وتدحض ما جاء على لسانه في مقطع "فيديو" تداوله الملايين، يجزم فيه بأن الجزيرتين مصريتان، وتخترع رواية درامية بائسة، عن عثورها، مصادفة، في بيت الوالد، على حجة ملكية السعودية لهما، ثم تهتف في "الأهرام" بصوت مبحوح "أعتقد أن الشعب المصري في حاجة الى إيماءة معنوية من جانب الملك سلمان؛ لقاء الدماء التى بذلت من جانب المصريين فى سبيل المحافظة على هذه الأرض العربية، وإلا لكان الإسرائيليون احتلوها وصمموا على الاحتفاظ بها، كما يحدث الآن بالنسبة للجولان السورية".

هنا يحضر المنطق، فيخرج عبد الفتاح السيسي إلى المطار، يستقبل ولي العهد الصغير، كما خرج من قبل وقفز درجات سلم طائرة الملك الراحل، عبد الله، حين مر بسماء مصر، عقب نجاح العملية التي أزهقت روح الثورة المصرية، وفرضت واقعًا جديدًا يفتح الطريق أمام السعودية باتجاه الكيان الصهيوني، لتكون أرض تيران وصنافير عربون الصداقة مع إسرائيل.

هنا، أشفق كثيرًا على الذين رفعوا لافتة "زيارة المنشار عار"، فلم يكن ممكنًا ألا يأتي بن سلمان إلى هذه النسخة الرخيصة من مصر، خروجًا من حصار الدم الذي يلاحقه في أرجاء المعمورة.

غير المنطقي ألا تكون القاهرة هي الأرض التي يحاول أن يدفن فيها دم الشهيد، فهنا منشار يستقبل منشارًا، يقودهما ويحركهما نجار واحد، يسكن البيت الأبيض، فيقطع الخرائط ويمزق البلاد ويسيل دم العدالة والأخلاق، في جملة واحدة: جاء بن سلمان إلى حيث لا اعتبار للإنسانية، ومن ثم ليس أفضل من هنا لدفن الجرائم ضد الإنسانية.

يمكنك أن تتحسر على غياب المنطق، فقط، لو حط بن سلمان الرحال في تونس، وقتها يصح أن تقول "زيارة المنشار عار".

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا