خطأ محمد مرسي القاتل

خطأ محمد مرسي القاتل

25 نوفمبر 2018
+ الخط -
على الرغم من مرور قرابة ثماني سنوات على ثورة يناير 2011 في مصر، إلا أن أحداث الثورة الجسام ما زالت تفتقر للكتابات التي ترصد وتوثق شهادات فاعليها الرئيسيين، سواء بين القوى السياسية المصرية أو القوى الدولية. ومن هنا تأتي أهمية كتاب "في أيادي العسكر"، الصادر في أغسطس/ آب الماضي، لمراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في القاهرة خلال سنوات الثورة، ديفيد كيركباتريك. حيث يجمع الكتاب بين دفتيه شهادات مهمة لقادة القوى السياسية المصرية الفاعلة، وكذلك لأهم صانعي القرار في الولايات المتحدة، ومنهم وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان السابقان جون كيري وتشارلز هيجل، ومستشاران للرئيس السابق باراك أوباما. ولذلك، يعد الكتاب بمثابة رؤية جادة ومهمة لبعض أهم أحداث الثورة المصرية، كما رصدها صحافي محترف، يقف على مسافةٍ بعيدةٍ من مختلف القوى السياسية المصرية. هذا بالإضافة إلى رؤيتها بعيون مسؤولين أميركيين كثيرين يستشهد الكاتب بمقابلات أجراهم معهم.
ولعل من أهم الخلاصات التي احتواها الكتاب تفسيره للأسلوب الذي تم به الانقلاب على الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، وكيف وقع هذا الرجل فريسة للانقلاب العسكري، وهو سؤال ما زال مطروحا بقوة على الساحة المصرية. إذ يتساءل كثيرون عن مدى إدراك الرئيس مرسي ما كان يحاك ضده من مؤامرة انقلابية؟ وكيف عجز عن الانتباه لها إلى درجةٍ جعلته لا يحذّر منها علانية، إلا في الثاني من يوليو/ تموز 2013، أي قبل الانقلاب عليه بيوم، ومن خلال خطاب غامض ركز فيها على مفهوم الشرعية بشكلٍ مبالغ فيه؟
يقدّم كيركباتريك تفسيرا رئيسيا لأسباب نجاح الانقلاب، أو خطأ مرسي القاتل الذي سهل 
الانقلاب عليه، وهو تفسير تجده بين سطور الكتاب وفصوله المختلفة، ويعد أحد أهم خلاصاته على الإطلاق. ببساطة، فشل الرئيس مرسي في مواجهة الانقلاب، لسبب رئيسي، وهو ثقته شبه المطلقة في وزير دفاعه، وقائد الانقلاب، ورئيس مصر الحالي، عبد الفتاح السيسي الذي يرسم كيركباتريك، منذ فصول الكتاب الأولى، صورة له بأنه رجل طموح للغاية يجيد التحايل. فالسيسي الذي امتدح الرئيس المخلوع، حسني مبارك، أب لكل المصريين، حذر قادته قبل الثورة، وكان رئيسا للاستخبارات العسكرية، من مساعٍ لمبارك لبدء إجراءات لنقل السلطة إلى نجله جمال في صيف عام 2011، ونصحهم بالتخلص من مبارك، لو ثار عليه الشعب.
كما اعتبر السيسي وزير الدفاع الأسبق، ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة لاحقا، المشير حسين طنطاوي، مثله الأعلى وقائدا يدين له بالولاء، ومع ذلك ساعد الرئيس مرسي في إطاحته ورئيس الأركان الفريق سامي عنان في أغسطس/ آب 2012. حيث قدم لمرسي وثائق تثبت فساد عنان. وتعاون السيسي، مع صهره رئيس الأركان لاحقا، محمود حجازي، في إقناع المجلس العسكري بالتخلي عن طنطاوي، وتعيينه مكانه وزيرا للدفاع.
ويكتب كيركباتريك أن السيسي، بعد توليه وزارة الدفاع، كان حريصا على التودد للسفيرة الأميركية في القاهرة في حينه، آن باترسون، مؤكّدا لها على سعادته بالعمل مع الرئيس مرسي، صاحب التوجه الإسلامي من ناحية، وعلى صداقته مع الإسرائيليين من ناحية أخرى. وأن السفيرة التي سبق لها العمل في باكستان حذّرت الإدارة الأميركية منه، بسبب طموحه الشديد وشراسته. أما مرسي، فيشير كيركباتريك إلى أن علاقته بالسيسي كانت وثيقة قبل انتخابه رئيسا، لأن السيسي كان مبعوث المجلس العسكري (الحاكم بعد ثورة يناير) إلى قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وكان مرسي رئيس حزبهم السياسي، الحرية والعدالة. وبعد توليه وزارة الدفاع في أغسطس/ آب 2012، كان حريصا على إظهار مدى طاعته الرئيس مرسي بشكل ملفت للنظر، ظهر في الصور التي التقطت لهما معا. حيث كان يحرص على أن يسير خلف مرسي خافضا رأسه، وعلى أن يجلس باحترام شديد أمام مرسي.
ويرى كيركباتريك أن مرسي كان رئيسا ضعيفا بلا سلطة، تولى الرئاسة في ظروف شديدة الصعوبة، وفي ظل مساعي الجيش والشرطة والقضاء ونخب مبارك المستمرّة للانقضاض على الثورة والتجربة الديمقراطية. وحرصا على استقلاليته، سعى مرسي إلى وضع مسافة بينه وبين قادة "الإخوان"، ما جعله يعتمد على فريقه الرئاسي الذي كان غير مكتمل، وبلا خبرة. كما صبر مرسي على محاولات مؤسسات الأمن المستمرة للخروج على سلطته. ولم يصارح الشعب بذلك، حتى لا تهتز صورته. وظل يحاول أن يهادن تلك المؤسّسات، ويتقرّب منها، على أمل أن يتمكّن من إقرار الدستور، وعقد الانتخابات البرلمانية، والانتقال بمصر ديمقراطيا إلى وضع أكثر استقرارا.
وللأسف، وثق مرسي في كل مساعي السيسي لتضليله. ويكتب كيركباتريك أن ضابطا في مطار القاهرة أبلغ مساعدي مرسي في فبراير/ شباط 2013 أن طائرة وصلت من الإمارات مليئة بالنقود وأقراص الترامادول، وأن ضابطا في الجيش استلمها، وهو ما أثار قلق مساعدي مرسي، والذي أخبرهم بأن عليهم ألا يقلقوا من السيسي، وأن يتركوا أمره له. ومعتمدا على شهادة بعض مساعدي مرسي، يفيد صحافي "نيويورك تايمز" بأن السيسي أقنع الرئيس مرسي بلقائه دائما منفردين، وبدون مساعديه، وهو ما رحب به مرسي الذي أطمأن دوما للسيسي، واستجاب لطلباته.
ومع اقتراب مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، وتوالي التحذيرات الأميركية المبطنة له من الانقلاب عليه، كان مرسي يجد مزيدا من التأييد من السيسي، والذي لعب دور الوسيط بين مرسي والمعارضة السياسية (جبهة الإنقاذ)، والتي نسق السيسي مع قادتها، مثل محمد البرادعي، خطة الانقلاب على مرسي، والتي باتت واضحةً لقادة الجبهة في مايو/ أيار 2013.
وبهذا أتقن السيسي خديعة مرسي، فهو لم يكن فقط من يدير الانقلاب عليه، بل كان من يحمل 
رسائله إلى خصوم مرسي المفترضين وشركاء السيسي الحقيقيين. لذا لمّا أعطى الجيش القوى السياسية في نهاية يونيو مهلة أسبوعا للتوافق، قدّم مرسي للسيسي قائمة بالتنازلات التي يرغب في تقديمها، ودعمها السيسي أمام مرسي، ثم أخفاها، وصدمت السفيرة الأميركية عندما علمت بوجودها، واعتقدت أنها كانت كفيلةً بالاستجابة لمطالب المعارضة المعلنة. ومع توالي الضغوط والأحداث، اقترح مرسي أن يتولى السيسي نفسه رئاسة الوزراء، لكن الجيش رفض العرض، لأن السيسي كان يجلس بالفعل في ذلك الحين مع تحالف "30 يونيو"، لوضع خريطة الطريق.
ويكتب كيركباتريك إن مسؤولين أميركيين حذروا مرسي، وقادة "الإخوان المسلمين"، بشكل مبطن، من خطورة ما يحدث، ومن بينهم الرئيس أوباما، لكن مرسي نفسه هو من كان يؤكد لهم أن الجيش المصري تحت سيطرته، وذلك بسبب اطمئنان مرسي للسيسي، والذي لم يكن يقدم لمرسي إلا كل فروض الطاعة والولاء.
وهذا لا يعني أن مرسي لم يرتكب أخطاء أخرى، فقد رصد الكتاب كثيرا غير ما سبق، في مقدمتها افتقاره الكاريزما، وضعف برنامجه، وقلة حيلة مساعديه، وخطاباته الغامضة، وعجزه عن التواصل مع الجماهير، وخصوصا من خارج تياره، والذين اعتادوا على صورة معينة للرئيس، وعجزه عن القيام بإصلاحات سريعة وجادّة، وعجزه كذلك عن الحديث بلغة المصالح، وفهم موازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية. .. كان الرجل، على ما يبدو، مثاليا، يركّز بالأساس على نقل السلطة إلى المدنيين عبر الانتخابات، وإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، لكنه لم يفعل الكثير لمواجهة مؤسسات الدولة التي كانت متمرّدة على سلطته، وكانت حيلته الأساسية محاولة استرضائها، مطمئنا للسيسي قبل أي فرد آخر. ويكتب كيركباتريك أن مرسي، بعد تأكده من الانقلاب عليه، توقع اغتياله. ومع ذلك، أنفق ليلته الأخيرة، مع من تبقى حوله من مساعديه، هادئا تماما مبتسما، يقص عليهم ضاحكا حكايات من شبابه وبعض خبراته السياسية، حتى غادر آخرهم، واحتجزه العسكر.