عن انتفاضة "السترات الصفراء" في فرنسا

عن انتفاضة "السترات الصفراء" في فرنسا

21 نوفمبر 2018

احتجاج لـ "السترات الصفراء" في أفينيون (17/11/2018/Getty)

+ الخط -
تشهد فرنسا منذ عدة أسابيع حركة احتجاجية عارمة، تشل الطرقات وتعطّل حركة السير وتضرّ بالنشاط الاقتصادي، ما أصبح يثير مخاوف لدى الحكومة، بسبب تعبيرها عن حالة غضب واسعة بين المواطنين. وقد بدأت هذه الحركة التي أطلقت على نفسها حركة السترات الصفراء، لأن المشاركين فيها يرتدون سترات صفراء، مطلع الصيف الماضي، عندما انتشرت بين الفرنسيين عريضةٌ تعبر عن رفضهم ضرائب جديدة على المحروقات، أمام تراجع القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة الصغرى، واستطاعت تلك العريضة أن تحصد أكثر من 850 ألف توقيع حتى نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما بدأ الموقعون على العريضة ينزلون إلى الشارع العام للتعبير عن غضبهم.
المطلب الأساسي للحركة، كما بلورته وثيقة أو عريضة مايو/ أيار الماضي، هو الاحتجاج على رفع أسعار المحروقات، بهدف الضغط على الحكومة للتراجع عن قرارها، فالحركة عندما بدأت بالانتشار، عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كانت تطالب بالتظاهر ضد رفع أسعار الوقود، والنزول إلى الشارع للتعبير عن الغضب من قرار الحكومة. ومثل كرة الثلج، بدأت الحركة تكبر حتى تحولت اليوم إلى حركة شعبية واسعة النطاق، انتشرت في المدن والقرى الصغيرة، وامتدت إلى الأرياف في عمق التراب الفرنسي، بل وصل صداها إلى بلجيكا، حيث بدأ سائقو السيارات هناك بإطلاق حركة مماثلة في بلادهم، وارتفع سقف المطالب من مجرد الاحتجاج على رفع أسعار المحروقات إلى التعبير عن التذمر على غلاء المعيشة وزيادة الضرائب، ومن السياسة العمومية في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يعتبره فرنسيون كثيرون رئيس الطبقات الغنية، ويصفونه بالمتعجرف. وعلى الرغم من حداثتها، فقد نجحت هذه الحركة حتى الآن في إسقاط شعبية الرئيس الفرنسي، عندما أظهرت أحدث استطلاعات الرأي تراجع التأييد لإصلاحاته السياسية، بسبب استمرار احتجاجات الغضب منها في مختلف أنحاء البلاد.
وهذه الحركة، مثل الجيل الجديد من الحركات الاجتماعية التي ظهرت في بلدان عديدة، ترفض 
الانقياد تحت راية الأحزاب السياسية أو النقابات العمالية، وغالبية مناصريها مواطنون عاديون، من الطبقة المتوسطة الصغيرة، ومن الفئة العمرية المتوسطة، فلا يكاد يوجد حضور قوي للشباب في صفوفها، ولم تنجح، أو بالأحرى لم تسع، إلى استقطاب الطلبة للالتحاق بها. وحتى الآن، لم تكسب سوى تعاطف أحزاب يمينية متطرّفة أو يسارية راديكالية، لكن حتى هذه الأحزاب لم تقرّر النزول معها إلى الشارع، واكتفت بإصدار بياناتٍ مؤيدةٍ لمطالبها. وزاد هذا الدعم، الصادر من اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي على حد سواء، من حذر الأحزاب السياسية الأخرى من الحركة، مخافة من أن تُستغل لمصالح حزبية ضيقة، أو لارتكاب أعمال تخريب، وقد صدرت فعلاً عن بعض أعضاء الحركة أعمال مخالفة للقانون، عندما تعدّوا التظاهر السلمي إلى الاشتباك مع الشرطة، ومع المواطنين الرافضين الانضمام لحركتهم، بل وأظهرت تسجيلات فيديو على المواقع الاجتماعية تصرفاتٍ عنصريةً لبعض المتظاهرين الذين رفعوا شعاراتٍ معاديةً للأجانب في فرنسا.
أما الحكومة الفرنسية التي تأخرت في التجاوب مع مطالب هذه الحركة، فقد أدركت أخيراً أن الأمر أصبح يتحوّل إلى غضب شعبي، آخذ في التزايد، بسبب تراجع القدرة الشرائية للمواطن المتوسط، ما دفع رئيس الحكومة، قبل أيام، إلى الإعلان عن تدابير اقتصادية لامتصاص هذا الغضب، لكنه أصر، في الوقت نفسه، على تطبيق الضرائب على المحروقات التي فرضتها حكومته، مع علمه أنها إحدى أبرز أسباب الاستياء الشعبي الذي تمخضت عنه حركة "السترات الصفراء".
وقد اعتبر المشاركون في الحركة التي باتت تمثل إحباطاً شعبيا واسعاً ومتزايداً بشأن القدرة الشرائية الراكدة، آخر خروج إعلامي لرئيس الحكومة الفرنسية تجاهلاً لمطالبهم، واحتقاراً لاحتياجات الفقراء الفرنسيين، واستمراراً لنهج سياسةٍ ضريبيةٍ لصالح الطبقة الثرية والطبقة المتوسطة المرفهة التي يتهم ماكرون بالدفاع عن مصالحها.
وأمام إصرار كلا الطرفين، الحكومة والمحتجين، على موقفه، تبقى الأزمة قائمة، ويستمر الغضب الشعبي في التنامي، فالحكومة تراهن على وهن الحركة، والأخيرة تنفخ في الرماد لإشعال جمر الغضب الشعبي الكامن تحته. وبعد تظاهراتها الناجحة نهاية الأسبوع الماضي، والتي شهدها معظم التراب الفرنسي، تنوي الحركة، هذه المرة، نقل معركتها إلى العاصمة باريس نهاية الأسبوع المقبل لاستعراض قوتها. لكن مشكل هذه الحركة يكمن في نقاط ضعفها الكثيرة، فهي تدّعي أنها تمثل الطبقة الوسطى الصغيرة الفرنسية، لكن أنصارها عندما ينزلون إلى الشارع لقطع الطرقات أمام مستعملي السيارات يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع أفراد من الطبقة التي يدافعون عن مطالبها! كما أن عناصرها أنفسهم باتوا لا يطيقون التظاهر أياماً، وبالأحرى أسابيع، بسبب الاقتطاعات من أجورهم الشهرية، أو تراجع مداخيلهم كلما تغيبوا عن أعمالهم.
ومثل كل الحركات الاجتماعية غير المؤطرة، وغير المسيسة، والتي تفتقد إلى قادة وزعماء،
 فإن مصير حركة السترات الصفراء الذوبان مع مرور الوقت، وهذا ما تراهن عليه الحكومة، فالحركات الاجتماعية الأفقية، وذات التنظيم الذاتي، بقدر ما تكون مفاجئة وعارمة مثل "تسونامي"، إلا أنها سرعان ما تخفت وتختفي، وأحياناً كثيرة من دون أن تترك وراءها أي آثار، لأنه نادراً ما تُتَرجم مطالب هذه الحركات إلى برامج يمكن التعبير عنها بأصوات انتخابية.
من الصعب جداً معرفة كيف ستتطور هذه الحركة، في وجود أكثر من خطر يتهدّد استمرارها، وفي مقدمة هذه المخاطر المطالب الشعبوية والعنصرية التي باتت تخترق صفوفها. ومن غير المستبعد أنها ستبقى مجرد صيحة غضب في شوارع فرنسا، صادرة عن طبقة وسطى صغيرة، تشعر بالتخلي عنها، بعد أن حولتها التحولات الاقتصادية الكبيرة في العالم إلى الخاسر الأكبر، وبدأت ترى في نفسها مجرد طبقة "عبيد جدد" في خدمة الطبقات الثرية والمرفّهة. ومثل هذه "الثورات العفوية" التي تحرّكها مطالب اجتماعية فئوية، أو تعبر عن اضطهاد فئة اجتماعية من فئةٍ أخرى، لم يكتب لها النجاح قط منذ "ثورة العبيد" في الإمبراطورية الرومانية، مروراً بـ "ثورة الزنوج" في العهد العباسي، ووصولاً إلى تمرّد "السترات الصفراء" اليوم في فرنسا.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).